...وفي خلافة عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ألم يصب المسلمون في المدينة المنورة؛ تلك المدينة التي تحوي قبر خير من طلعت عليه الشمس محمد-صلى الله عليه وسلم- وفيها مسجده وهو المسجد الثاني الذي تشد إليه الرحال، والمدينة المنورة من عير إلى ثور هي حرم كما في الحديث.
هذه المدينة في حوالي سنة 18هــ ابتليت بما يعرف بعام (الرمادة) وهذه التسمية جاءت لأن الأرض من القحط والجدب صار لونها كالرماد؛ وفي ذات الفترة وقع بلاء آخر في الشام هو طاعون عمواس قرب القدس، أي منطقة مباركة أخرى ابتليت بمرض كان وقتها قاتلا فتاكا، وأخبار عام الرمادة وطاعون عمواس محزنة، فقد عانى الناس من الجوع والقحط الشديد، ومات بالطاعون صحابة أجلاّء منهم أبو عبيدة الجراح ويزيد بن أبي سفيان...نعم أصيب المسلمون في زمن من خير الأزمنة وتحت خلافة رجل من خيرة الرجال مبشر بالجنة ببلاء عظيم في إقليمين مباركين...البلاء لا يقتصر على الكفرة والملحدين، لا شك في ذلك.
فكيف تصرف عمر؟لا يتسع المجال لسرد كل شيء، ولكن عمر تجلت عبقريته وحكمته فقد اتخذ تدابير اقتصادية وإدارية للحدّ من أثر هذا البلاء العظيم، ولمن أراد الاستزادة حول الموضوع ثمة دراسات موسعة، وأيضا-لمن يسخر من اللجوء إلى الله- قام بالاستسقاء حتى نزل الغيث وأخصبت الأرض، ونجا الناس من ذلك البلاء.
وعلى ذكر المعاصي وأثرها فقد ذكر ابن الأثير أن بعض المسلمين شربوا الخمر واستشار أبو عبيدة أمير المؤمنين في أمرهم فطلب منه أن يجلدهم 80 جلدة إذا أقروا بحرمة الخمر، أما إذا استحلوها فليقتلهم، فأقروا بحرمة فعلهم وجلدوا وقال أبو عبيدة عبارة كبيرة المغزى: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث! فتأمل-وفقك الله- كيف أدرك هؤلاء الرجال العظام أثر المعصية على الناس، مع أن من اقترف المعصية نفر قليل، وقد تمت محاسبتهم، ثم يأتي من يستهين بالأمر في زماننا، ونحن لا في خير القرون ولا صحابة كبار بيننا، ويقول بأن الأمر حرية شخصية، أو لا علاقة للمعاصي بالكوارث وما يصيب الحرث والنسل من بلاء، ألم يتأملوا قول الله تعالى:-
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا )-الإسراء16
فالدمار بسبب فسق فئة من المجتمع لا يصيبها وحدها بالضرورة...نسأل الله السلامة.
وعلى ذكر طاعون عمواس فقد قام ابو عبيدة الجراح في الناس خطيبا وقال فيما قال حسب ما ذكر ابن كثير:-
(إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة منه حظه)...فأصابه الوباء ومات وقام معاذ فخطب مثل خطبته فأصيب بابنه...أما عمرو بن العاص فقد قال للناس:-
(أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا منه في الجبال.)
فلم يكن من أمير المؤمنين على هؤلاء أو هؤلاء لوم أو عتب؛ فالمسلم يؤمن بقضاء الله وقدره، ويحتسب عند الله، وفي ذات الوقت يتخذ التدابير اللازمة لمكافحة البلاء ودرء الخطر.
فالحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، ولكن هناك حالة استشرت في الناس، وهي نسيان الآخرة، من الناحية العملية لا النظرية، والانغماس في الدنيا وكأنه لا حياة بعد الموت، وإذا كانت أقوام وأمم أخرى قد نسيت الآخرة أو لا إيمان بها أصلا عندهم، فإن المسلمين عليهم مسئولية أكبر؛ فبتنا نلحظ تراجعا وشحا في الحديث عن الآخرة، تحت عناوين مختلفة، منها ما يعرف بالتنمية البشرية وتحقيق النجاح في الدنيا مقرونا بنسيان الآخرة!
وقد ذكرنا تدابير عمر وبقية الصحابة التي جمعت بين التوكل على الله والتضرع له، بالتزامن مع اتخاذ تدابير واحتياطات وإجراءات لمكافحة الرمادة والطاعون...فنرى أن الأمريكان بفضل تدابيرهم واحتياطاتهم لم يمت منهم عدد كبير، واستطاعوا إجلاء ملايين السكان من خط سير الإعصار، وهذه تحسب لهم، وهي مما أمر به ديننا من الأخذ بالأسباب الدنيوية للنجاة من الخطر...ولكن لنتخيل أن هذا حصل في قطر عربي أو إسلامي كبير كمصر أو باكستان؛ فكم بتقديركم سيكون عدد الضحايا وحجم الأضرار؟هل البنى التحتية مهيأة لتخفيف حدة الكوارث كالزلازل والفيضانات في بلاد العرب والمسلمين؟وهل فرق الإنقاذ لديها قدرة على العمل بحيث تنقذ المناطق المنكوبة وتجلي السكان...وبعد ذلك كم من الزمن سيمر حتى يعاد إعمار وترميم المباني والمرافق والشوارع، مقارنة مع الدول الأخرى كالولايات المتحدة واليابان وغيرها؟
أما التندر السخيف الممجوج بأن أموال العرب هي التي تساعد الأمريكان، فإن الرد عليه بأن الأمريكان أيضا يرسلون فرقا ومساعدات مختلفة لبلاد المسلمين، حين تقع الكوارث، ولا أقول هذا دفاعا عن الأمريكان، أو اعتقادا مني بأنهم كرماء رحماء بنا، وأيضا ليست أموال العرب هي التي قامت بإجلاء ملايين السكان في فلوريدا، ولا هي التي جعلت البنى التحتية تتحمل نسبيا هول الإعصار!
وأما من تمنّى أن يكون الإعصار نهاية الامبراطورية الأمريكية المتوحشة؛ فإن هذه الأمنية لا تخلو من عدم المعرفة، بأن تلك البلاد هي بلاد الأعاصير مع فارق اختلاف الشدة بين موسم وآخر، وأن القوم يعلمون ذلك، ويحتاطون له، وتشبيه الأمر بالريح التي اقتلعت خيام الأحزاب وقلبت قدورها بعد حصار المدينة المنورة، هو أمر محزن؛ فالرسول –صلى الله عليه وسلم- ومعه أهل المدينة مهاجرين وأنصارا لم يجلسوا ينتظرون معجزة، بل اتخذوا التدبير الأذكى الذي أشار عليهم به سلمان الفارسي-رضي الله عنه-كما يعلم الأطفال الصغار وحفروا خندقا أوقف الأحزاب وجعلها في حيرة وعجز عن اقتحام المدينة، وجاع الناس حتى ربطوا الحجارة على بطونهم، وبلغت القلوب الحناجر، فجاءت الريح التي أرسلها الله لتكمل هزيمة الأحزاب.
والولايات المتحدة الأمريكية تمثل وعاء الشر؛ فقد قامت على جماجم الهنود الحمر، واستعبدت الأفارقة المخطوفين من بلادهم كي يعملوا في ظروف سيئة في مزارع الرجل الأبيض، ودعمت النظم الدكتاتورية، وهي الدولة الوحيدة التي استخدمت القنابل النووية، وتدعم إسرائيل وترعاها في كل تفصيلات عدوانها، وقتلت وجرحت وشردت ملايين العرب والمسلمين مباشرة أو غير مباشرة، وبالتالي لا لوم ولا عتب على من يتشفى بما يصيبها من كوارث، ولا تبرير لإنسانية مصطنعة مع من يرعى كل الشرور والجرائم في العالم .
وفي ذات الوقت علينا أن نتذكر، أن أبا جهل عذب وقتل نفرا من المسلمين الأوائل في مكة، ونزل به قرآن يتلى وبأنه صاحب(ناصية كاذبة خاطئة)، وهو الذي خطط وسعى لقتل النبي-صلى الله عليه وسلم- وقتل كافرا يوم بدر، ومع ذلك فقد طلب المصطفى من الصحابة ألا يسبوه أمام ابنه المؤمن عكرمة.
فحين تذهب للتعليق على فيسبوك لمن يدعو بالنجاة لأقارب له في فلوريدا، وتكتب دعوات بأن تدمر على من فيها جميعا مثلا، فقد خالفت الهدي النبوي.
التوازن مطلوب في مسألة التشفي، ولكن بعيدا عن الثنائية المطلقة التي تسبب التنافر والتباغض.
هذا ما أحببت أن أبينه وفق ما فتح الله علي في موضوع الإعصار وعموم البلاء..حفظنا الله من كل شر وسوء.
بقلم/ سري سمّور