في الحقيقة لا أستطيع أن أنكر أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتمتع بلغة جسد خطابية هائلة ، ويستحضر في خطاباته كلمات إثارة بالغة ، وهي تثير معها وجدان المستمع إليها لتجعله يستنفر طاقاته شوقا ومنتظرا بأن هناك حالة خارقة باتت قادمة، وبأن المتحدث يحمل معه المفتاح السحري لكل قضاياه العالقة ، ولكن سرعان ما يكتشف هذا المستمع كغيره من المستمعين المساكين والمتعطشين لحالة أمل غائبة، أنها لا تعدو سوى آليات مبرمجة ومتفق عليها ومدرجة في القرارات والاتفاقيات والمشاريع والخطط التي تكتظ بها الأرفف في مستودعات مغلقة إلى إشعار آخر ، لا بل ، أنها تمثل خازوق إضافي يضاف إلى مجموع الخوازيق السابقة.
ما تحدث به الرئيس محمود عباس أمام الأمم المتحدة هو عالي البلاغة وفسيح الخيال ، لذلك جعلني أستحضر افعالا تتناقض مع أقواله ومنها على سبيل المثال لا الحصر حرمان أطفال أبرياء من لقمة عيشهم بقذارة وسادية، ولو أردت أن أفندها كلمة كلمة، لجعلت حروف كلمته هذه متناثرة وبلا أي قيمة عاطفية هو وفريقه ارادوها، ونجحوا فيها في ظل توافر سيمفونية النفاق الشعبية الهائلة ، بعد أن تم توجيه الرأي العام بمهارة فائقة ، للخروج إلى الشوارع والاستنفار لسماع كلمته التي وصفوها بالتاريخية والهامة ، وهي للأسف الشديد مع التدقيق، لم تكن كذلك، ولكن العواطف جامحة ومتعطشة لأي حدث يطفئ نارها، ويهدئ من ثورة هيجانها كونها باتت جارفة.
هنا أستطيع القول بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد حقق بلا شك ، في ظل التغييب المتعمد الذي وقع فيه الشارع الفلسطيني، من خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مرة أخرى، مكاسب له ولكافة منظومته البائسة، كانت مفقودة ، فأصبح بطلا قوميا ووطنيا، حيث أجاد استخدام لغة الجسد عندما هدد الاحتلال بالعودة للمطالبة بفلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، ليدغدغ بذلك الوهم المستحيل مشاعر الإنسان الفلسطيني الهائجة والمتعطشة لروح الانتصار بعد كل الهزائم المعنوية والفكرية والوطنية التي غزته على مر السنين الماضية، متجاهلا بذلك بأنه هو من أقر سياسات نجم عنها تجويع الأطفال الأبرياء وإغلاق البيوت العامرة وحرمان النساء والتعدي على كرامتهن، وقمع الحريات ، لا بل كان متناسيا على ما يبدو بأنه هو بطل التنسيق الأمني المقدس، وبأن ما تحدث به لا يتناسب واقعيا ولا فعليا مع ما يكرره دائما ، لا بل لا يحاكيه بالمنطق ولا العقل، لأن القدسية هي نتاج فكر نابع من قناعات راسخة وغيمان بالقول والفعل وهذا ما كان الجميع يشاهده، فهل اصبح ذلك من خطايا الماضي أم أن ما قاله له أبعاد لها ما بعدها.
لذلك لابد من الإشارة إلى أنه في ظل تكرار مطالبته بأن يكون عام 2017 هو عام إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين المحتلة ، يحضرني تساؤلا كيف بالإمكان له أن يحقق ذلك وعام 2017 بالتحديد شهد قمعا للرأي والحريات وعربدة على كرامة الشرفاء والوطنيين وشراسة في الحصار لقطاع غزة وحرمان المرضى من العلاج والدواء، وإهدارا للمال العام واخرها قضية عالقة تتعلق بسرقات ملايين الدولارات من خلال الإدارة العسكرية التابعة لمكتب الرئيس مباشرة، والتي لا زالت التحقيقات جارية فيها وحولها، وهناك حيتان من العيار الثقيل جدا متورطة فيها ويعملون على إغلاقها بصمت ، فكيف يكون التحضير لإنهاء الاحتلال في ظل منظومة فاسدة ومارقة ، تغولت على القيم الوطنية والإنسانية وكرامة الإنسان ومستقبل أبنائه ، وهي التي تمثل أعمدة هذه الدولة المنشودة.
كيف أيضا للرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يحادثنا مرة أخرى عن وعد بلفور وهو يدرك بأنه كان عاجزا طوال فترة حكمه عن حل إشكالية وطنية أو مهنية صغيرة واحدة ، فكيف له أن يجد حلولا لمشكلة جاوزت المائة عام بدون بناء الإنسان ، حيث ساهمت سياساته القمعية والتي تغولت على كرامة الإنسان الفلسطيني بتغييب ذاكرته عن ما نجم عنها من كوارث أصابت الشعب الفلسطيني في عصب حياته وكرامته وتطلعاته وحقه بالعيش مع الآخرين بكرامة وبأمن وأمان وسلام.
كيف لا ، والرئيس الفلسطيني محمود لا زال يتجاهل الكوارث الوطنية والإنسانية التي نجمت عن سياساته الدكتاتورية ، وكان من حصيلتها موت الأطفال والنساء نتيجة نهش أجسادهم بالمرض وحرمانهم من العلاج.
كيف لا ، والرئيس الفلسطيني محمود عباس هو من أقر سياسات نجم عنها إغلاق بيوت عامرة وحرمان الأطفال من طفولتهم الطبيعية ، لا بل نجم عنها سرقة الفرحة والسعادة والبسمة من وجوه النساء والفتيات وحول الكثير منهن لمتسولات وضحايا الابتزاز ، وهن اللاتي يمثلن أعمدة المجتمع ، فهل هذه السياسات هي التي ستجلب له حرية وطن وتحرره من براثن احتلال بغيض.
نعم لم يقنعني خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشيء مما ذكره، لا بل اصابني بحالة من الغثيان وأنا أستمع لمطالب إنشائية مكررة بالرغم من قوة الخطاب، هدفها لا زال وحيدا وهو تخدير الجسد الفلسطيني وتغييب العقل، وذلك من خلال مخدر اسمه الأمل، وهو في الحقيقة لا يتجاوز حكاية من حكايات الوهم المستمر ، لا بل هو يمثل تواطؤ جديد، ولكنه مفضوح، لا زال يسير في سياق سياسة حرق الوقت بدون السعي الجاد والعمل الحقيقي من أجل تحقيق نتائج عملية أو الانتقال لمرحلة الأفعال الحقيقة التي تجلب الأمل وتعيد الحقوق وتقضي على الفساد وتحاكم المجرمين وتوقف التغول على الحريات وتعمل على تنظيف المؤسسات من المحسوبيات ووباء المافيات المنتفعة من الوطن وأوجاعه.
لا بل ، تعيد للقانون هيبته وترفع من مكانة القضاء وضمان استقلاليته ، وتعمل على تطبيق القانون على المسؤول قبل غيره، كما أنه يتوجب وقف إهدار مقدرات منظمة التحرير الفلسطينية التي يتحكم بها الصندوق القومي الفلسطيني البعيد عن الرقابة والذي تتحكم به إدارة مشبوهة الأفعال ومنتفعة، وذلك لحساب أبناء المتنفذين، من خلال ابتعاثهم بدون وجه حق إلى السفارات الفلسطينية التي باتت تعج بهم بدون الحاجة إليهم أو أنهم كفؤ أكثر من غيرهم لتحمل مسؤولية العمل فيها.
كما أنه يتوجب المبادرة الفعلية لزيارة قطاع غزة كاستحقاق وطني وكجزء أساسي من الوطن وليس كمنة أو كحقنة سم مفروضة لا بلد من ابتلاعها تماشيا مع التحديات ومتطلباتها الآنية وذلك للالتفاف عليها وإفشالها لاحقا.
كما أنه يتوجب اتخاذ قرارات فعلية وعملية فورية تدلل بشكل قاطع على أن هناك نوايا صادقة اتجاه إيجاد حلول جذرية لكل المشاكل التي نجمت عن سياسات هذه المنظومة التي باتت تحتاج لتجديد شرعيتها ، وذلك من خلال الإعلان الواضح والصريح والملزم عن موعد انتخابات عامة ، حرة وشفافة ونزيهة، تخضع للرقابة الدولية ، ولا تخضع لمنطق التقاسم الحزبي كما يريده البعض أن يمر من تحت الطاولة لضمان بقاءهم في المشهد وضمان استمرار مصالحهم الحزبية .
هنا فقط سيدرك شعبنا الفلسطيني، بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس جاد فيما جاء في خطابه في سياق مطالبه العشرة ولا يبيع وهما كسابق عهده في كل خطاباته السابقة ، والتي أستطيع القول بأنها إنشائية بامتياز ومثيرة للعواطف ومهيجة للمشاعر فقط، وتمثل حالة بائسة ويائسة كون أن فاقد الشيء لا يعطيه، إن لم تقترن بالأفعال الحقيقية والعملية والمؤسساتية، وليس التكتيكية الفارغة من المضمون، ومن يريد من المجتمع الدولي أن يحقق مطالبه عليه أن يحظى بمظلة شعبية تقبله أولا وتسانده وتعطيه شرعية نابعة من إيمان بذلك ، وليس ناتجة أو ناجمة عن حالة تغييب مؤقتة.
هنا أستطيع القول مرة أخرى، سيادة الرئيس ، هناك من الأفعال الكثيرة التي جعلتني أن أكفر بما تقولون، وليس فقط أن أعبر بأنكم لم تقنعونني بما تفضلتم به في خطابكم المذكور ، وانتم تعرفون وأنا أعرف بأن ما تفضلتم به هو لا زال يدور في حلقة مفرغة من تظليل مبرمج ومقصود للرأي العام ، وذلك من أجل كسب الوقت، وهو يمثل محاولة بائسة أخرى من أجل إقناع من رفضوا انعقاد المجلس الوطني ووقفوا ضد ذلك بأن يتجابوا من جديد مع مطلبكم بانعقاده في القريب، وبذلك تنهون الحكاية وتسدلون الستار عن مشهد مسرحية طال انتظار فصلها الأخير، وبات مطلوب لها أن تضع النهاية، وليس في هذا المقام بالإمكان المزيد من التفسير.
بقلم/ م . زهير الشاعر