قد لا يعرف بعض المتابعين لمقالاتي والمعلقين عليها والمهتمين بالشأن الإسرائيلي أن سؤال من سيخلف عصر نتنياهو في تسلم مقاليد الحكم في إسرائيل هو أكبر من مجرد هاجس نعيشه، نحن مواطني الدولة العرب، من باب الفضول أو الشماتة أو التكهن العابث.
فمسألة التغييرات السياسية والاجتماعية الجذرية التي تعصف بالمجتمع الإسرائيلي، وما تفرزه من قوى يمينية – دينية زاحفة كتائبها نحو "الملك" بعصبية وعنجهية واضحتين، أصبحت قضية وجودية مؤرقة لنا وتشغل أيضًا بال الكثيرين من داخل المجتمع اليهودي، وبعضهم يعدّون رموزًا ثقافية وأكاديمية واجتماعية صهيونية بارزة، ويمثلون نخبًا فكرية وتيارات سياسية ذات رصيد وقيمة، بدأت هي أيضًا تشعر بأفول عصر الدولة، التي كانت تجسد أحلامهم الصهيونية التقليدية، واستبدالها بكيان متوحش مشوه المعالم، يستمد شرعيته من فقه القوة المطلقة والنار، ومن وعود السماء وأوامر وكلائها في المستوطنات والهياكل.
من الواضح أننا كنا، نحن المواطنين العرب، الضحايا المباشرين لسياسات القمع التي نفذتها حكومات إسرائيل المتعاقبة، بعد عام النكبة وحتى هذه الأيام، ومن المعروف كذلك أن بعض الصهاينة الذين بدأوا يستشعرون دنو الخطر الفاشي منهم، كانوا في الماضي شركاء في تلك الممارسات الحكومية بحقنا، إما بشكل مباشر وفعلي، من خلال مناصبهم، وإما عن طريق صمتهم رغم ما كانوا يرونه من بطش وقمع صارخين، وبسبب أدوارهم تلك، يستبعد اليوم كثيرون من العرب، بيننا وبين أشقائنا في العالم الوسيع، أو حتى يحرّمون أي فكرة لتلمس احتمالات التقرب منهم ومشاركتهم في أي مجهود سياسي مشترك، رغم وجود الحاجة والمصلحة لذلك أحيانًا.
ما جرى ويجري من تحولات داخل المجتمع الإسرائيلي ينذر بنشوء فضاءات مرّت بعمليات إخصاب عنصرية شنيعة، وما تعودنا عليه من اضطهاد عنصري "عادي" صار يعتبر "لايت" أو فصلًا في كتاب الأماني، ولذلك إن لم نحسن قراءة تضاريس غابتنا الجديدة وما تبعثه من ضواري حية، سنجد أنفسنا أمام أنياب وحش لا يعرف إلا ما علمته غريزته وقوانين الغابات البشرية في أساليب البقاء.
معلّم اسمه التاريخ
أحاول منذ سنوات التحذير من نتائج التحولات الوخيمة الحاصلة، واليوم سأعزز قناعاتي، ولا غضاضة في ذلك، بما كتبه موخرًا عٓلم خبير في التاريخ الحديث وعلم السياسة، البروفيسور زئيف شطيرنهال في مقالة بعنوان "سموطريتش كإشارة لما سيأتي" (نشرها في جريدة "هآرتس" بتاريخ 26/5/2017). ربما سنجد في سيرة هذا المفكر الإسرائيلي الشخصية "وسيلة ايضاح" مناسبة لمساعدة بعض مدمني "علك" الأيديولوجيات وعسيري فهم المقروء، على استيعاب ما أقصده في هذا المقال، وما كتبته من قبل عن المسألة نفسها، فالسيد شطيرنهال يهودي من مواليد بولندا عام 1935، قتل النازيون أمه وأخته. تم تهريبه فوصل إلى فرنسا وفيها عاش وتعلم، ومنها هاجر إلى إسرائيل عام 1951. مارس حياته كصهيوني في "موطنه" الجديد بعدما أجهزت المنظمات الصهيونية على أرض فلسطين وهجّرت معظم أبنائها عنها.
مثله مثل صهاينة "أشكناز" كثر تعلم وأصبح واحدًا من الخبراء العالميين في تاريخ الفاشية، وصاحب نظريات مهمة خولته أن يُقبَل كمرجع وازن في هذا المجال. نشر دراسات عديدة عبّر فيها عن خشيته من التحولات الفاشية داخل المجتمع الإسرائيلي، حتى وقع هو نفسه ضحية لمحاولة اغتيال، حين انفجرت عبوة ناسفة أمام باب بيته وضعها شخص يدعى يعقوب طايطل وأصابته في قدمه. يمثل شطيرنهل اليوم نخبة من اليهود الصهاينة، يجزمون بأن إسرائيل الحالية تحركها "أيديولوجية قريبة من الفكر النازي" وتنعكس خطورة حاملي تلك العقيدة، بتبنيهم الوسائل نفسها التي تبنتها حركات آمنت قبلهم بالفكر النازي، وحاربت أعداءها بالوسائل نفسها ومن أجل الأهداف نفسها. فالنازيون استعدوا اليهود لكنهم لم يكتفوا بهم أعداء وجوديين، بل قتلوا الملايين من باقي الشعوب ومن الألمان أنفسهم كذلك، وقد سبق اعتلاء النازيين عرش ألمانيا "اختراعهم" لعدو مطلق كان هو هدف آلات سحقهم المباشر والأول.
وبالمقارنة نلاحظ اليوم كيف حول "السمورطيتشيون" الفلسطينيين إلى خطر يهدد وجود "الكيان اليهودي" بتعريفه الغيبي، وينادون تباعًا لذلك بضرورة القضاء على أملهم القومي وإبقائهم، في أحسن الخيارات، في مكانة وضيعة خصصت في التوراة "للمواطنون الأغيار"، وهي الغاية التي تُسخّر من أجلها الكنيست والحكومة والجهاز القضائي طبعًا، ومن سيقاوم منهم تلك البدائل سيُترك مصيره للجيش، الذي يعرف "واجباته المقدسة".
من الضروري متابعة التذكير بهذه الحالة ونبشها كل يوم من جديد، ولا أرى في ذلك تكرارًا مملولًا أو تهليعًا للناس ولا إثقالًا على القيادات، فـ"قوافل" الجماهير العربية وحُداتها في قرانا ومدننا ينامون، في الواقع، مطمئنين خارج خيامهم، رغم عواء الذئاب في حواكيرهم ونعيق البوم من شرفاتهم.
ما زال في القنديل بعض الزيت
ما زال في القناديل بعض الزيت، وهو يكفي لإضاءة بداية الطريق نحو الربى البعيدة، لكن المسيرة لن تقلع صوب مرافئ النجاة قبل إحراز الضمانة الأولى للانطلاقة في الاتجاه الصحيح، وذلك سيكون فقط عندما تتفق جميع أو غالبية المؤسسات القيادية (القائمة المشتركة، لجنة المتابعة العليا، لجنة الرؤساء، مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات على أصنافها) ومركباتها الحزبية والحركية، على أن المرض الذي يشكل الخطر الأول في حياة المواطنين العرب هو الفاشية الإسرائيلية (أو الايديولوجية النازية كما سماها شطيرنهل وغيره من اليهود)، ويتلو ذلك اتفاق على تحديد أهداف النضال وساحاته ووسائل إنجاحه؛ أما اذا تابعوا تغنيهم بفاشية النظام الإسرائيلي كلازمة توصيفية كالحة، واستمر كل فصيل بالصياح على ليلاه في ملعبه، فلسوف نصحو يومًا ونحن بين فكي الوحش؛ لأنه ما دام القيادي "القومي" بيننا يخشى على مصير الأسد وسوريا، أكثر من على مصير المثلث من جهة، وقومي ثان يرى "بالصحارى" موائل الهمة والإنقاذ أكثر من خضرة الكرمل وعطر صنوبره، وإلى جانبهما يدعو شيخ لنصرة السلطان أردوغان، ويجاهد آخر لتجنيد الأمة دفاعًا عن الاخوة من "الروهينجا" في بورما، ما داموا، يتصرفون هكذا، فسيبقى شعار الوحدة والنضال في وجه الفاشية مجرد يافطة فارهة وحبة مسكن يبلّعوننا اياها.
فإما أن يوقنوا بأن الفاشية الإسرائيلية هي عدونا الحقيقي الأول والخطير (وهي ليست وحيدة، فالاحتلال يبقى مصدر معظم الشرور والآفات بالطبع) وإما سيبقى الأسد حليف زيد والسيسي عدو عمرو والبوذيون فاشيين وقتلة و"بوتين" صليبيًا "مأفونًا"، والعوض على ما علمنا أياه تاريخ الدم والخسارة.
جبهة في وجه الفاشية
ولكل من يسألني ما العمل أقول: سيستدعي الإقرار بأن الفاشية هي عدونا الأول، التفتيشَ، بالضرورة، عن جميع من ستستعديهم، وإذا ما اتفقنا على أن العرب هم في طليعة الأهداف وضحاياها المؤكدون فالتاريخ دلنا على من هم اللاحقون، من هنا يبدأ الطريق للحل.
وإذا اتفقنا على أن إسرائيل الحالية "تحركها ايديولوجية قريبة من النازية" وعلى أن عدونا الأول والأخطر هو من يؤمن بهذه العقيدة، فعندها يجب أن تكون مهمتنا الفورية مواجهة هذا العدو، بإقامة "جبهة إنقاذ" توحد أولًا جميع العرب بالفعل لا بالشعار والصلاة واللعب، ومعنا جميع اليهود الذين يشعرون بأن الوحش على الأبواب.
وتبقى المشكلة في مَن من التيارات السياسية العربية البارزة مهيأ للسير على هذا الطريق؟ "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" أعلنت بالبنط العريض منذ شباط/فبراير المنصرم أن مطلب الساعة هو "تشكيل جبهة مناهضة للاحتلال والفاشية والابرتهايد" لكنها لم تخط خطوة فعلية واحدة لتجسيد قرارها المذكور، في المقابل لن يكون هذا خيار الحركات الإسلامية، وذلك لأسباب عقائدية وشرعية معروفة، وسيتحفظ القوميون على تفرعاتهم من تجسيد هذه الشراكة اليهودية العربية الفعلية بسبب موقفهم التاريخي ممن يعرّفون أنفسهم صهيونيين، حتى لو كانوا صهاينة مهددين مثل شطيرنهل وبورغ وعوز وغيرهم.
فمن بقي إذن؟
بقيت الأكثرية الهامدة غير الفعالة وهي التي يسهّل سكوتها مهمة "الوحش" ويشجع قيادة الجماهير العربية على المضي في طريق السراب وسياسة التردد والعجز والقصور، فـ"سكوت الآخرين والخوف من الوحش هو ما أتاح لهتلر التحكم في ألمانيا، علمًا بأنه كان من الممكن إيقافه بسهولة في البداية.. وهذا ما سيحصل عندنا في المستقبل اذا لم يتحرك المركز". هكذا حذرنا ويحذر زئيف شطيرنهل في دراساته، وربما بسبب ذلك حاول سفراء ذلك الوحش قتله في بيته، فهل نقرأ في كلامه دعوة عملية صادقة للصراخ وللعمل من داخل خندق واحد. قد تكون مهمتنا صعبة لكنها اليوم أسهل من مشقة الغد، ولنا في ألمانيا عبرة.. فمن سيوقد الشعلة ويعلن عن كسر القوالب والبدء في مسيرة الأمل.
جواد بولس
كاتب فلسطيني