أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العامة أنه في طريقه إلى المصالحة الوطنية وأن حكومة الوحدة الوطنية عائدة إلى غزة وأنه سيدعو المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد لتحديد الاتجاه الجديد للعمل الوطني الفلسطيني بعد أن وصل حل الدولتين إلى طريق مسدود، وبعد أن ضاعت الأرض التي كان من المفروض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية. فهل المصالحة المقبلة التي جاءت نتيجة وساطة مصرية جدية أكثر من المرات الثلاث السابقة التي أشرفت عليها السعودية ثم قطر ثم مصر أيام مبارك؟ وهل الفصيلان الأساسيان يعملان الآن على انقاذ سفينة الوطن التي تكاد تغرق أم انقاذ الفصيلين المأزومين كل لأسبابه؟
من الواضح أن القضية الفلسطينية على أبواب مرحلة في منتهى الخطورة تؤدي فيما لو نفذت المخططات المتداولة كما يرشح منها في وسائل الإعلام إلى إنهائها مرة وإلى الأبد. فالحل الإقليمي هو المطروح على الطاولة الآن. فقد استطاعت حكومة نتنياهو أن تقنع إدارة ترامب بالتخلي عن حل الدولتين واستبداله بالحل الإقليمي وتحسين الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وغزة وربط غزة بالضفة الغربية وربط الضفة الغربية بالأردن. ويبدو أيضا أن هذا الحل مقبول الآن من قبل أربع دول عربية على الأقل لها تأثير مباشر على الفلسطينيين. الدول العربية الأربع هذه لوحت باستبدال عباس بدحلان وبدأت تعمل على مصالحة بين دحلان وحركة حماس في قطاع غزة، الأمر الذي أثار مخاوف عباس وتراجع عن تعنته في موضوع المصالحة، وأسرع في تقبل الوساطة المصرية للمصالحة لاستبعاد التيار الدحلاني من جهة ولتقوية أوراق التفاوض التي يملكها في حالة ما استؤنفت المفاوضات من جهة أخرى. أما حركة حماس والتي في دورها أبدت استعدادا لتقبل التيار الدحلاني، تشعر بضرورة تخفيف الاحتقان الداخلي الذي وصل حد الانفجار ودفع ببعض الشباب اليائس إلى الانتحار أو ركوب سفن الموت في المتوسط بعد أن فشلت الحركة في حل مشاكل المواطنين المتعلقة بالحاجات الأساسية مثل الماء والكهرباء والسكن والغذاء والدواء. فصيل فتح الذي يقود السلطة الفلسطينية ليس أحسن حالا من حماس. لقد أوصل الشعب الفلسطيني إلى طريق مسدود أدى بالقضية إلى شبه الانهيار التام لدرجة أن أبو مازن قال بكل وضوح في خطابه أمام الجمعية العامة "أن هناك احتلالا بدون تكلفة وسلطة بدون سلطة". الأدهى من ذلك أن بعض رموز السلطة يتسابقون في إعطاء التصريحات التي تتضمن الاستعداد لتقديم تنازلات خطيرة أكبر من التي قدمها لهم اتفاق أوسلو.
في ظل هذه الأجواء التي تشير إلى امكانية انفجار الأوضاع الداخلية تأتي المصالحة بين فصيلين مأزومين وصلا وأوصلا الشعب في الأراضي المحتلة إلى حافة الانهيار. ألم يكن الانقسام أصلا نتيجة مباشرة لاستبدال النضال بالمفاوضات ووضع الثقة في الوسيط الأمريكي بدل الاعتماد على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وتحويل المناضلين إلى موظفين واعفاء إسرائيل من تبعات الاحتلال وإعطاء الفرصة الكاملة لإسرائيل أن تنجز برنامجها بكل هدوء وثقة على الأرض وتخلق حقائق راسخة من الصعب تغييرها؟ أليس ذلك كله نتائج مباشرة لاتفاقية أوسلو المشؤومة؟ ألم يكن انتخاب حماس أصلا ردا على السلطة وما جرته من مآس على الشعب الفلسطيني؟
خطوات أساسية
إذا أراد الفصيلان الأساسيان انجاح المصالحة فعلا من أجل انقاذ الوطن أو ما تبقى منه وليس الخروج من أزمتيهما، فعليهما أن ينطلقا أولا من بعض الحقائق وصولا إلى توجه جديد للعمل على انهاء الاحتلال فعلا لا قولا:
أولا: مراجعة اتفاقيات أوسلو الكارثية والاعتراف بالخطيئة التاريخية التي وقعت فيها القيادة وجرت معها الشعب الفلسطيني دونما ذنب منه. لقد أعطت الاتفاقيات شرعية لاحتلال فلسطين التاريخية مقابل وعود غامضة مرهون تنفيذها من قبل إسرائيل بتغييرات جذرية في الايديولوجيا والمسلك والممارسة والوظيفة التي كانت تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية. وفتحت أوسلو الطريق أمام الأنظمة للشروع في تطبيع مجاني وعلني واتسع التطبيع والتعامل مع إسرائيل وتبادل الزيارات والتجارة بشكل غير مسبوق واقامة علاقات بشكل أو بآخر مع أكثر من 11 دولة عربية. ألم يحن الوقت للاعتراف بهذه الخطيئة والاعتذار عنها والاقرار بما جرته على شعبنا من ويلات والتعهد رسميا بالتخلي عنها؟
ثانيا: لقد وصل الانقسام الفلسطيني الفلسطيني لدرجة من العمق والاتساع لم يصل إليه أي خلاف داخلي في تاريح الحركة الوطنية الفلسطينية. وجاء الانقسام أصلا على أرضية أوسلو والخلاف بين توجهين: المفاوضات أو المقاومة. فلا المقاومون قاوموا ولا المفاوضون أنجزوا. لقد تحولت السلطة إلى جهاز أمني يخدم الاحتلال بكل دقة ويلاحق المناضلين ويسهل لقوات الاحتلال مهماتها في الأراضي المحتلة ويكتم الأنفاس ويضيق حريات التعبير ويحول المناضلين إلى مطاردين وسجناء. وتحولت سلطة حماس في غزة إلى شبه إمارة إسلامية تفرض فيها ايديولوجيتها على الأطفال والنساء والمدارس والشواطئ والمقاهي وواجهات المحلات وتمارس الاعدامات الميدانية وسحل الجثث بالدراجات وفرض ضرائب جديدة.
ثالثا- انهاء الانقسام يعني انهاء السلطتين بجدية واستبدالهما بسلطة انقاذ مؤقتة تضم شخصيات وطنية نظيفة حريصة على شعبها من كافة الأطياف بعيدا عن الفصائل ورموز الفساد والمحسوبيات. ويجب أن نقر أولا أن هذا المشهد المأساوي الذي تعيشه القضية الفلسطينية الآن هو حصيلة مسيرة طويلة من عملية تكييف منتظمة لاخراج الثورة الفلسطينية المعاصرة من نهج التحرير إلى نهج التسوية، ومن حركة تحرر وطني إلى حركة استقلال وطني ومن نهج التحالف مع الجماهير صاحبة المصلحة في التحرر والتحرير إلى الالتصاق بالأنظمة العربية الأكثر تخلفا، ومن الاعتماد على الجماهير في دعم الثورة إلى الاعتماد على أموال الدول المانحة المسمومة والتي حولت المناضلين إلى موظفين ورجال الخنادق إلى نزلاء فنادق.
رابعا- تقوم سلطة الانقاذ المؤقتة بالعمل بجد على تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ودخول كافة الفصائل في خيمتها- لقد جرت عملية تهميش متعمدة لكل ما تمثله منظمة التحرير الفلسطينية. فالمجلس الوطني معطل والمجلس المركزي معطل. وأما اللجنة التنفيذية فقد رحل عدد كبير من أعضائها واختصرت بمجموعة قليلة من الأعضاء من الموجودين في دائرة السلطة الفلسطينية يستخدمون عند الحاجة وقد يطرد الواحد منهم بإشارة من الرئيس. تفعيل المنظمة عمل جماعي يجب أن يشمل كافة مناطق الشتات بلا استثناء. هناك ضرورة لإعادة بناء المجلس الوطني الفلسطيني بجدية وبعدد معقول من الشرفاء والمناضلين الذين يمثلون فعلا قوى مدنية وسياسية وتجمعات ونقابات وأصحاب فكر ومهارات وفاعليات فنية وثقافية واقتصادية. يمارس الانتخاب حيث يمكن ممارسته ويتم الاختيار الاجماعي أو شبه الاجماعي عندما يتعذر الانتخاب. وبعد اكتمال إنشاء المجلس الوطني الجديد يدعى للاجتماع لانتخاب لجنة تنفيذية وإقرار برنامج المرحلة المقبلة.
رابعا – إقرار برنامج النضال والمقاومة الشاملة والذي على أساسه ترسخ المصالحة والوحدة الوطنية – لا شيء يوحد الشعب الفلسطيني مثلما يوحده النضال والمقاومة (نتذكر ما حصل في مواجهات الأقصى مؤخرا). ولا شيء يضمن اصطفاف جماهير الأمة العربية والإسلامية وشرفاء العالم إلا النضال لانتزاع الحقوق. وما أقصده بالنضال والمقاومة هنا، بعد أن أصبح الحديث عن الثورة والكفاح المسلح نوعا من المغامرة والتطرف غير المقبول، هو الانتماء إلى حالة ذهنية تقوم أساسا على مبدأ أن الحقوق تنتزع انتزاعا، وأن صاحب الحق قوي ما دام متمسكا بحقوقه ورافضا التخلي عنها وأن التنازل عن جزء من الحقوق يفتح المجال للاستمرار في تقديم التنازلات وكلما قدم تنازلا طالب الأعداء بالمزيد حتى لا يبقى ما يقدمه فيتخلصون منه. إن المقاومة السلمية ستنجز في وقت قصير أكثر بكثير مما أنجزته جماعة "الحياة مفاوضات" في 24 سنة.
بهذه الخطوات، في رأينا المتواضع، يمكن لشعبنا وقواه الحية أن تنجز المصالحة وتعزز الوحدة الوطنية وتتوجه للنضال السلمي الجماعي المتواصل والمتراكم والمتعاظم لإنجاز المشروع الوطني الذي يعيش حاليا حالة احتضار.
عبد الحميد صيام/ القدس العربي