حتى لا يغرق العراق، مرة أخرى في حرب الطوائف والعناصر!

بقلم: طلال سلمان

تتبلور مأساة العراق، أكثر فأكثر، مع افتقاد المرجعية العربية، بل وافتقاد الوسيط العربي المؤهل لان يتفرغ لمعالجة موضوع الكرد من موقع الحريص على روابط الاخوة بين العرب والكرد، والعمل على تمتينها وازالة الاشكالات التي قد تعترضها، لأسباب سياسية في الغالب، وان تسترت بذرائع عنصرية او تاريخية او بظلامة لم تجد من يعالجها.

ومن قبل، وحين اوغل الاحتلال الاميركي للعراق في تثمير تركة صدام حسين الثقيلة، التي زعزعت الروابط الطبيعية بين العراقيين، كشعب واحد له تاريخه السامي الواحد وأرضه الغنية الواحدة، فاقطع “الشيعة” الحكم ـ بشراكة ما مع الاكراد ـ لاستبعاد “السنة” او تهميش دورهم، كمن ينقل الظلامة من الشيعة إلى السنة، حرصاً على استمرار الخلل في العلاقة بين ابناء الشعب الواحد.

وهكذا تبدلت مواقع السلطة طائفياً، من دون أن تتبدل وظيفتها في تكريس انقسام العراقيين على المستوى الطائفي كما على المستوى العرقي.. وعمل الاميركيون على تثبيت هذه الصيغة الشوهاء، بالزعم أن حضور الاكراد يجب أن يرضي السنة العرب، فهم منهم ومعهم مذهبياً وهم حريصون على توازن في السلطة بين الشيعة والسنة.

كان مما يسهل تمرير هذه المزاعم أن العراقيين في أبأس حال: فثروات البلاد منهوبة (بما فيها مقتنيات المتاحف وجواهر ابداعات الماضي نحتاً ورسماً وكنوز الموروثات التاريخية، بما في ذلك التماثيل ذات القيمة الفنية التي لا تعوض والتي دمرها ـ في ما بعد وحوش “الدواعش”).

ثم أن من اختار الاحتلال الاميركي لحكم “العراق الجديد” كانوا ـ بصفة عامة من “المغتربين” الذين هربوا من بطش صدام حسين، فاستقروا في ملاجئ سياسية فخمة، ما بين الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وامارات الخليج، اما الفقراء منهم ـ وبالذات جماعة “الدعوة” فقد استقرت غالبيتهم في دمشق وتوزع بعضهم بين ضواحي بيروت الجنوبية وعمان.

هكذا ازداد الشرخ بين العراقيين عمقاً، على قاعدة مذهبية، خصوصاً وان لهذا الشرخ اسبابا سياسية تعود إلى لحظة تأسيس “الدولة الجديدة” في ارض الرافدين تحت رعاية الاحتلال البريطاني الذي كرسته معاهدة سايكس ـ بيكو بعد تقسيم “بلاد الشرق” بين الاستعمارين: الفرنسي (سوريا ولبنان) والبريطاني (فلسطين والعراق وامارة شرقي الاردن التي نصب عليها عبدالله ابن الشريف حسين الهاشمي).. ثم جيء بالأمير فيصل، شقيق عبدالله من دمشق التي نصب عليها ملكاً، قبل أن يخلعه الفرنسيون، ليكون ملك العراق.. مع استثمار الالتباس في هوية الهاشميين الذي توحي تسميتهم بأنهم “شيعة” في حين انهم من “اهل السنة”..

استنكف شيعة العراق عن الدخول إلى السلطة، في موقع ملتحق، في حين أن العروض التي قدمت اليهم كانت مجحفة.. وهكذا استمرت قيادة الحكم سنية طوال مدة الانتداب البريطاني، وحتى قيام الجيش بثورته في 14 تموز 1958… ومرة أخرى استغل الالتباس حول “مذهب” الزعيم عبد الكريم قاسم (قيل أن امه شيعية)، كما استفيد من حالة الفوران الشعبي لطمس الحديث عن الحكم الطائفي.. خصوصاً وان الصراع في تلك المرحلة اتخذ بعداً سياسيا قاطعاً في وضوحه، تجلى أكثر ما تجلى في التصادم المكلف بين قيادة جمال عبد الناصر (رئيس الجمهورية العربية المتحدة يومها) وبين عبد الكريم قاسم المحتضن آنذاك من الشيوعيين والدهماء من المستفيدين من السلطة.

كان حزب البعث في العراق في المعارضة، وكانت له شعبيته، خصوصا وان “الطلاق” لم يكن قد حدث بين عبد الناصر والبعثيين، الذين كانوا يخططون لاستعادة الحكم في سوريا (ولو بالانفصال عن دولة عبد الناصر التي اسهموا في بنائها) او في العراق حيث كانوا يأملون أن يكونوا شركاء فأقصاهم عبد الكريم قاسم بشخص شريكه في الثورة عبد السلام عارف ومن معه..

بعد خمس سنوات من حكم عبد الكريم قاسم، امكن لتحالف حزب البعث مع الجيش أن يسقطه، ليتسلم الحكم عبد السلام عارف.. وبعد وفاة عارف تولى شقيقه عبد الرحمن عارف الحكم الذي كان قد غدا ضعيفاً وفقد شعبيته..

بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، ومحاولات حثيثة من البعثيين للعودة إلى السلطة أمكنهم عقد تفاهم مع بعض كبار الضباط، ونجحوا في قلب نظام الحكم بقيادة احمد حسن البكر، في 8 شباط 1968 على أن يكون صدام حسين “السيد النائب” أي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة… وبعد فترة وجيزة، بدأ صدام تصفية “الشركاء” حتى استقر له الاستيلاء على الحكم، باسم البعث، مبقياً على البكر في رئاسة الدولة (وهو من خؤولته..)

في منتصف العام 1970 امكن الوصول إلى تفاهم مع الاكراد بشخص مصطفى البرازاني على صيغة فيدرالية لحكم مناطقهم تحت ظل القيادة المركزية في بغداد .. لكن هذا الاتفاق لم يعمر طويلاً، لان صدام حسين انقلب عليه ـ كما يقول الاكراد ـ فشن حملة ضارية على الكرد في مناطقهم تضمنت مجازر وتصفيات أشهرها مجزرة “حلبجة”، حيث استخدم صدام ـ في ما ثبت بعد ذلك ـ القنابل الحارقة.

استمر حكم صدام حسين حتى الاحتلال الاميركي للعراق في العام 2003 تضمن خلالها حرباً طويلة ضد الثورة الاسلامية في ايران استمرت لسبع سنوات ثقيلة ومكلفة جداً.. ثم “غزوه الكويت” لاحتلالها التي استنفرت العالم كله، وهكذا نشبت الحرب الدولية الثاني ضد صدام حسين لإخراجه من الكويت، مع احتلال اجزاء من العراق (في جنوبه).

ثم بدأ العراق يتدهور، دون أن يخفف صدام من قبضته البوليسية، ومن دون أن يعدل في سياساته الداخلية سواء تجاه الشيعة او تجاه الكرد.

وهكذا وجد الاحتلال الاميركي للعراق واطاحة حكم صدام حسين الارض ممهدة.. فالشعب مدمر المعنويات، تفتك به الانقسامات الطائفية والعرقية، والجيش منهك ومشرذم نتيجة المغامرات العسكرية (7 سنوات من الحرب ضد الثورة الاسلامية في إيران، ثم احتلال الكويت ومن ثم هزيمته فيها واضطراره للخروج منها مدحوراً وخسارة استقلال العراق).

ذلك في التاريخ.. اما في الواقع فان الاحتلال الاميركي للعراق في العام 2003 قد اجهز على الدولة فيه.. ثم انه قد استغل خطايا النظام فأوهم الشيعة بأنه يريد التعويض عليهم بتسليمهم حكم العراق، مستفزاً بذلك السنة الذين وجدوا انفسهم، لأول مرة، خارج السلطة..

وعمد الاحتلال إلى استرضاء الاكراد عن طريق اشراكهم في السلطة بأكثر من نصيبهم الطبيعي، مفترضاً أن ذلك قد يعوض السنة.. لكن الكرد رفضوا هذه الصيغة وأصروا على الفيدرالية فكان لهم ذلك. وهكذا نالوا منصب رئيس الدولة، وبضع حقائب وزارية اهمها الخارجية والمالية ومناصب أخرى حاكمة.

*****

يمكن القول أن “المظلومية ” تكاد تكون هوية اضافية للعراقيين..

فالشيعة الذين كانوا “مظلومين” ومستبعدين عن السلطة منذ قيام الدولة في العام 1920 حتى سقوط صدام حسين ودولته في العام 2003، افترضوا انه قد آن الاوان (بعد الاحتلال الاميركي) لتحصيل الفائت من حقوقهم في دولتهم..

والسنة الذين اتهموا بأنهم قد احتكروا السلطة، اعتبروا أن التهمة ظالمة، فمن احتكر الحكم طوال العهود الماضية، وحتى اسقاط نظام صدام حسين، كانوا جماعات معينة وليس عموم السنة، وان كانت “التهمة” قد انسحبت على أهل السنة كافة..

بالمقابل فان الكرد، بشخص زعامتهم المفردة الآن ممثلة بمسعود البرازاني قد وجدوا في الوضع الضعيف في بغداد فرصتهم للتعويض عن عهود الاضطهاد، مستفيدين من ضعف السلطة المركزية وانقسامها، وتضخم الفساد في ظل “الحكم الشيعي” الذي لم ينتفع منه الا بعض من تولوا السلطة وغرقوا في الفساد في حين ظلت المناطق الشيعية ترتع في قلب الحرمان التاريخي.. متسببة في تشويه صورة الشيعة، مكرسة الزعم بأنهم لا يصلحون للحكم.

وهكذا يمكن القول أن الحل في العراق يجب أن يكون وطنياً جامعاً، يتجاوز الطائفية والمذهبية والعنصرية، والا ضاعت الفرصة الذهبية المتاحة بعد القضاء على “داعش”، وبناء الجيش الوطني القومي..

وكل ذلك يمكن أن يؤسس لوحدة وطنية جامعة تكون الركيزة الثابتة لحكم وطني متوازن يضمن حقوق الشعب، بعناصره المختلفة، طائفياً وعنصرياً، من اجل عراق جديد موحد وقوي وقادر على لعب دوره الذي لا غنى عنه في بناء المستقبل العربي الافضل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق