لماذا نَتردّد في المُشاركة بمَهرجان فَرح المُصالحة في غزّة؟

بقلم: عبد الباري عطوان

لم يُفاجئنا مَهرجان الفَرح الذي شَهِده قطاع غزّة اليوم (الإثنين) تيمّنًا بوصول الدكتور رامي الحمد الله “رئيس الوزراء” الفِلسطيني، على رأس وَفدٍ يَضم حوالي 200 شخص بعضهم وزراء وضُبّاط أمن وكِبار المَسؤولين، لتسلّم “الحُكم” من حركة “حماس″ التي كانت خَصمًا لدودًا قبل بِضعة أيّامٍ فقط، فأيّام الفَرح نادرةٌ في هذا القِطاع المُحاصر الذي تُؤكّد مُنظّماتٍ دوليّة أنه لن يكون قابلاً للمَعيشة في غُضون خَمس سنوات.
السّؤال المَطروح في الأوساط الفِلسطينيّة هذهِ الأيام هو عمّا إذا كانت هذهِ المُصالحة حقيقيّة، أم أنّها مُجرّد “مسرحيّة” تُعيد التّذكير بسابقاتها عام 2011 في القاهرة، ولم تُعمّر إلا لبِضعة أسابيع.
نَعتقد أن الأمر مُختلفٌ هذهِ المرّة، لعدّة أسبابٍ نُوجزها في النّقاط التالية:

    أولاً: الطّرفان يَعيشان حالةَ تأزّمٍ، فحركة “حماس″ لم تَعد قادرةً على توفير لُقمة العَيش لأكثر من مليوني فلسطيني، مُحاصرين في مساحة لا تزيد من 150 ميلاً مُربّعًا، بدون ماء وكهرباء، أو أيّ مصادر للدّخل، وبطالة تزيد عن 80 بالمئة في أوساط الشّباب، أمّا السّلطة في رام الله فباتت مَعزولةً ومَكروهةً من غالبيّة الشّعب الفِلسطيني لفَشل خيارها التّفاوضي، وتَراجع أهميتها عربيًّا ودوليًّا إلى الحُدود الدّنيا، واستفحال الفساد في صُفوف نُخبتها.
    ثانيًا: انتخبت كوادر حركة “حماس″ قيادةً جديدةً لمكتبها السياسي وللقطاع، تتميّز مُعظمها بالاستقامة، والتقشّف، والاحترام الجماهيري، ونحن نتحدّث هُنا عن السيد إسماعيل هنية الذي ما زال يُقيم في بيتٍ مُتواضع في مُخيّم اللاجئين، والسيد يحيى السنوار الذي قضى في السجن الإسرائيلي 24 عامًا، وكان من أبرز مُؤسّسي الحَركة وجَناحها العَسكري، وكانت أبرز مَهامه بعد تولّيه القيادة الإطاحة بالقِطط السّمان في الحَركة، واجتثاث الفساد والفاسدين.
    ثالثًا: إشراف القيادة المِصريّة الجديدة على الجَولة الحاليّة من المُصالحة، وخَطوات تنفيذها بجديّةٍ غير مَسبوقةٍ، والتّهديد بفَرض عُقوباتٍ على أيّ طرفٍ يُحاول اختراقها، ووصل وَفد أمني ودبلوماسي مِصري إلى غزّة يَضم السيد عادل خيرت السفير المِصري في تل أبيب.
    رابعًا: رَفع إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا “الفيتو” عن إتمام هذه المُصالحة، وإلا لما سَمحت الأولى، أي إسرائيل، للوَفد الفتحاوي بالوصول إلى غزّة.
    خامسًا: تصاعد الحديث عن “صفقةٍ كُبرى” تَعكف إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب على طَبخها حاليًّا كتسويةٍ مُؤقّتةٍ ربّما تتحوّل إلى نهائيّة، ويُقال أنها تتضمّن تنازلاتٍ من الجانبين، ومن شُروط هذهِ الصّفقة وجود قيادة فلسطينيّة مُوحّدة للضفّة والقِطاع.
    سادسًا: وعود أمريكيّة وأوروبيّة مُغرية بفَتح ميناء في قطاع غزّة، وخَط سكك حديد يَربط القِطاع بالضفّة الغربيّة، وفَتح مَعبر رفح طِوال العام، وضَخ مليارات الدولارات لإعادة الإعمار، وتَحريك العَجلة الاقتصاديّة الصّدئة، أي “سلام اقتصادي”، وبمَعنى آخر “رَشوة”.

***
من تَحدّثنا مَعهم في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، أكّدوا لنا أن الحَذر مَطلوبٌ، لأن هُناك قضايا صَعبة قد تَطرأ في مَرحلة “اليوم التّالي”، أي بعد أن يَهدأ غُبار الاحتفالات، ويَتم البِدء في القضايا السياسيّة والتنفيذيّة المُعقّدة، ولكنّهم أجمعوا، أو مُعظمهم، على أن الإرادة قويّة هذهِ المرّة بالالتزام، لانعدام الخيارات الأُخرى للطّرفين، وتفاقم الضّغوط العربيّة والدوليّة عليهما.
نُقطة التحوّل الرئيسيّة، مِثلما قال لنا هؤلاء، وجود قائد قوي لحركة حماس في قطاع غزّة (السنوار) قاد انقلابًا على مُستوى القمّة والقاع معًا، ووضع توفير لُقمة عيش كريمة لأبناء القطاع قمّة أولوياته، وكانت أول خُطوة لقيادة حماس الجديدة نقل دائرة صُنع القرار إلى الداخل، ولَعب ورقة التفاهم مع النائب محمد دحلان بدهاءٍ شديد، واستخدامها ورقة ضغط مُضادّة لعُقوبات الرئيس عباس التي تمثّلت في خَفض الرّواتب، وإحالة 6000 مُوظّف إلى التّقاعد المُبكّر، وعَدم تسديد نَفقات ثمن وقود محطّة الكهرباء اليتيمة في قطاع غزّة، وجاءت النتائج مُذهلة.
القيادة المِصريّة هي الفائز الأكبر من هذهِ المُصالحة، لأنها ضَمِنت تعاون حركة “حماس″ أمنيًّا معها في سيناء، وإغلاق كل المعابر غير الشرعيّة، وإبعادها عن ألد خُصومها الإقليميين، أي قطر وتركيا، وجرّها إلى أرضيّة العمليّة السياسيّة بشكلٍ أو بآخر، واستئثارها بورقة القضيّة الفِلسطينيّة دون شريك.
هُناك ثلاث قضايا شائكة سيكون إيجاد حُلول أو “تفاهماتٍ” حَولها شَرطًا أساسيًّا لنَجاح هذهِ المُصالحة، وإعطاء ثِمارها:

    مَلف الأمن: الذي سَيكون أكثر الملفّات تعقيدًا، لأنه من الصّعب أن تتنازل عنه حركة “حماس″، كما أن أبناء القطاع، أو مُعظمهم، لا يُريدونها أن تفعل ذلك، لأنه أبرز إنجازاتها على مَدى السّنوات العَشر الماضية من حُكمها، فقد قَضت على العِصابات، والفَوضى العشائريّة القبليّة، وفَرضت القانون، وهو ما فَشلت فيه السلطة الفلسطينيّة قَبلها.
    مَلف سلاح المُقاومة: لا نَعتقد أن حركة “حماس″ ستتنازل مُطلقًا عن ترسانتها العسكريّة من صواريخ ومِدفعيّة وطائرات بدون طيّار وغيرها، لأنها ستَفقد صِفتها، وربّما وجودها كحَركةٍ مُقاومة، ونتوقّع أن يتم تأجيل البحث في هذا المَلف إلى المَرحلة الأخيرة من المُفاوضات.
    ملف المُرتّبات: هناك أكثر من 40 ألف مُوظّف يُدرجون حاليًّا على قوائم الرّواتب لإدارة “حماس″، وهؤلاء تحمّلوا تصريف الأمور في القطاع بعد أن سَحبت السّلطة جميع مُوظّفيها من الإدارات الخَدماتيّة، ودَفعت رواتبهم كاملةً شريطةَ أن لا يُمارسوا أيّ عملٍ في الإدارة الحَمساويّة أو خارجها، ممّا أدّى إلى خَلق جيشٍ جرّار تعداده أكثر من ستين ألفًا من العاطلين عن العَمل بأُجورٍ مُرتفعةً، حماس ستُطالب قَطعًا بضَم هؤلاء إلى كوادر السّلطة وعَدم القَذف بهم إلى مُستنقع البطالة.

***
القضيّة الفِلسطينيّة تَعود إلى دائرة الاهتمام مُجدّدًا، وعَبر البوابة المِصريّة تحديدًا، ولكن ما يُثير القَلق هو عَدم مَعرفة الأهداف المَخفيّة التي أمّنت هذه المُصالحة، وطبيعة “الصّفقة الكُبرى” المُتوقّعة، ولا بُد أن الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي الذي التقى بالرئيس ترامب على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، وعرّاب هذهِ المُصالحة، يَعلم ببعض التّفاصيل، إن لم يَكن كلها.
هُناك حديثٌ عن حَل مُؤقّت يتحوّل إلى دائمٍ، ويَرتكز على بقاء المُستوطنات، وتأجيل البَحث في قضيتي القدس وحَق العَودة، إلى مَرحلةٍ لاحقة، وإقامة “شِبة دولة” أو “دولة مُؤقّتة” تتحوّل إلى دائمةٍ أيضًا تُمهّد لمُصالحة عربيّة إسرائيليّة أشمل، وتطبيعٍ كاملٍ للعلاقات، وربّما تَنضم إسرائيل رسميًّا إلى جامعة الدّول العربيّة، ومِحور “الاعتدال العربي” الذي سيتأسّس لمُواجهة “الخَطر” الإيراني.
نَضع أيدينا على قُلوبنا تَحسّبًا، نحن الذين لُدغنا من هذا الجُحر أكثر من مرّة، ولهذا لا نُريد الإغراق في التّفاؤل، والحُكم على الأشياء من ظَواهرها، ونَتسرّع بالانضمام إلى مَهرجانات الفَرح السّابقة لأوانها، ونُفضّل التمسّك بأقصى درجات الحَذر، فالأمور بخواتمها، وما عَلينا إلا الانتظار والصّبر.

عبد الباري عطوان/رأي اليوم