سأتعرض في مقالتي إلى ثلاثة مشاهد حدثت في مواقعنا مؤخرًا، ومع أنها تبدو للناظرين متمايزة ومختلفة، لكنها في الواقع مترابطة وتعري مجتمعةً ما وراء سياسات قادة إسرائيل الحقيقية، ومخططاتهم في الاستفراد بالقدس، وتثبيت سيطرتهم على أكبر مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية الواقعة بين النهر والبحر. فاستشراس التيارات اليمينية الدينية وتكثيف عملياتها الاستيطانية، بات شأنًا مألوفًا ومستساغًا لدى أكثرية سكان إسرائيل، وأصبح ظاهرة "طبيعية" في أعين "العالم"، وقد سبقت ذلك عملية انصهار اجتماعية سياسية بنيوية كاملة للمستوطنين، وقبولهم كمركب "حيوي وشرعي" أسوة بجميع مركبات المجتمع الإسرائيلي ومفاعيله المؤثرة.
فالاستيطان اليهودي في الضفة الغربية لم يعد مجرد " فذلكة" تكتيكية، أو ورقة جوكر" تسحب عند الضرورة السياسية، كما خطط لها بعد احتلال الضفة وغزة، بل هو في نظر الأغلبية اليهودية عبارة عن تجسيد حق جوهري وتنفيذ لوعد الإله "ايل" باسترجاع بيته. والمستوطنون تحولوا من مجرد "مجموعات هامشية" مغامرة، أو فوائض بشرية قد يقايض مصيرها مقابل حقوق العائدين الفلسطينيين عند ساعة الصفر، إلى رموز للتضحية والوفاء الوطني، وإلى حماة المشروع الصهيوني الأصلي ومن يقف في مقدمته.
واشنطن/ القدس، تقرير دائرة شؤون المفاوضات حول القدس
من مشفاه في واشنطن، عقب أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية الدكتور صائب عريقات على ما سماه "الحملة الشرسة التي تنفذها قوات الاحتلال ضد أرض وشعب فلسطين على مدى الأشهر التسعة الماضية، وبشكل خاص على مدينة القدس المحتلة"، وذلك بعد نشر "دائرة شؤون المفاوضات" تقريرا شاملا يرصد مجمل الممارسات القمعية المنفذة بحق القدس وأهلها، في مسعى لمحو الطابع العربي عن العاصمة الفلسطينية، وتهجير سكانها، أو تذويبهم وتهويد المدينة بشكل كامل.
لقد حاصرت إسرائيل مدينة القدس منذ عام 1993 ومنعت أكثر من أربعة ملايين فلسطيني من دخولها، ولم تتوقف عن البناء في المستوطنات المزروعة في قلبها وعلى أطرافها مثل "راموت" و"بسجات زئيف" و"عطروت" وغيرها، فخططت، منذ مطلع العام وباشرت ببناء 1600 وحدة سكانية في الأحياء المذكورة وفي "هار حوماه" و"جيلو" و"النبي يعقوب".
رافق عمليات الاستيطان إعلان الحكومة عن نيتها تهجير التجمع البدوي الفلسطيني الذي يسكن في منطقة "الخان الأحمر" وغيرها من التجمعات البدوية في المناطق الشرقية (مثل عرب الجهالين) في عملية سيضمن تنفيذها قطع سرة القدس من جميع الجهات عن باقي المناطق الفلسطينية، وإحكام الحصار المذل والمنهك على سكانها، وسيفضي ذلك أيضًا إلى فصل الضفة الغربية بشكل نهائي وتقسيمها إلى قسمين والإجهاز على فرصة حل الدولتين.
وفي الوقت نفسه قامت إسرائيل منذ مطلع العام بهدم 36 بيتًا فلسطينيًا، وأخلت قسريًا تسع عائلات فلسطينية من بيوتها، في مناطق حي "الشيخ جراح" و"سلوان" وغيرها، ونفذت قوات أمنها أكثر من 400 عملية اعتقال، رافقها تكثيف المستوطنين لهجماتهم واقتحاماتهم للمسجد الأقصى، واعتداءاتهم على سكان البلدة القديمة، إضافة إلى تثبيت إغلاق العشرات من المؤسسات المدنية الفلسطينية، وحرمان سكان القدس من الخدمات التي كانت تقدمها لهم.
لقد أنهى الدكتور صائب تعقيبه على تقرير الممارسات القمعية بحق القدس وفلسطين بوصفه تلك الأفعال "كخرق خطير لاتفاقيات جنيف الرابعة، وترقى إلى جرائم حرب حسب القانون الدولي". وأضاف نداءً إلى الدول والمجتمع الإنساني يدعوهم فيه إلى "إخضاع إسرائيل إلى المساءلة الدولية، واتخاذ إجراءات حاسمة لإنهاء الاحتلال العسكري الاستعماري لفلسطين منذ خمسين عامًا.. وليبدأ فصل جديد من الأمل".
هكذا جاءت، من بعيد، صرخة "صائب"، وهو على فراش القلق، ينتظر الفرج واستبدال رئتين أعطبهما التعب من مقارعة أصحاب دولة ناشزة، ومن وعود أشقاء تاهوا وتوّهوا، وركضة في الزحام الأخضر ووراء سراب الشرق المعتق، وعهر الغرب المجرب.
بيت لحم/ القدس، المؤتمر الوطني لدعم القضية الأرثوذكسية العربية،
شكّل انعقاد المؤتمر الوطني لدعم القضية الأرثوذكسية العربية في مدينة بيت لحم منعطفًا حاسمًا وعلامة فارقة في تاريخ وجع "أم الكنائس" وممارسات الكهنة اليونانيين المستحكمين برقبتها دينيًا وماديًا. فبعد ثبوت قيام ثيوفيلوس اليوناني، الرجل الأول في الكنيسة الأرثوذكسية المقدسية، ومجمعه "المقدس" وبمساعدة محاميه وبعض المتعاونين العرب وغيرهم، بإبرام عدد من الصفقات المستفزة مع جهات غريبة وشركات صهيونية واستيطانية، وجب على كل الغيورين والمتكاسلين والمترددين التحرك الفوري، فالصمت على ما نشر يعد مشاركة فيما سميته "مذبحة عقارات الكنيسة الأرثوذكسية" والتعامي عما قام به رؤساء الكنيسة ومعاونوهم يعتبر دعمًا للمتورطين الذين أنزلوا ضربة قاصمة على ظهر "مدينة الصلاة" وسددوا في خواصرها طعنات نجلاوات مدميات.
لم يعد سرًا أن القدس برمتها هي المستهدفة من وراء المؤامرة الكبرى، ومن الواضح أن البلدة القديمة هي هدف المؤامرة الماسي، فمن المؤسف والموجع أن نرى أن ما عجزت عن نيله إسرائيل من خلال المفاوضات السياسية، أو عمليات التزوير أو الترهيب أو الترغيب منذ عام 1967، فازت بجله من خلال المتنفذين المتعاونين في البطركية المقدسية، وما كشفته الوثائق الأخيرة يثبت فداحة الخسارة الوطنية الفلسطينية، وقد يكون المخفي أفدح وأعظم.
تفاصيل كثيرة رافقت أعمال هذا المؤتمر الذي التأم في الأول من أكتوبر المنصرم وبحضور مهيب، وطني ومسيحي، واسع ومتنوع. وسيبقى شعار المؤتمر الأساسي واحتسابه قضية تسريب عقارات الكنيسة كقضية وطنية وقضية هوية وبقاء هو العنوان التاريخي الأهم، فالنجاح بإخراج مسألة التفريط بعقارات الوقف المسيحي من قالبها الكنسي الداخلي وموضعتها على خريطة المصالح الوطنية يعد إنجازًا فلسطينيًا كبيرًا وانتصارًا للعرب المسيحيين الأرثوذكسيين الذين صرخوا منذ عقود باسم هذا الشعار.
أضفى انضمام القوى الوطنية الفلسطينية وممثلو فصائل منظمة التحرير على المؤتمر طابعًا مميزًا وقد يعكس حضور الأخ محمود العالول، نائب رئيس حركة فتح وعضو اللجنة المركزية للحركة، أهمية خاصة وشكل حضوره مؤشرًا مهمًا يكشف بسفور قاطع عن مناصرة الرئيس محمود عباس ودعم القيادة الفلسطينية كلها لانعقاده ومخرجاته، ويبعث في الوقت ذاته، رسالة قاطعة لكل من حاول الرهان على مواقف القيادة الفلسطينية، وافتراضهم بأنها مكبلة بأصفاد السياسة الكبرى ومصالح الدول.
ومن الجدير أن نقرأ بإمعان ما صرح به العالول في المؤتمر وبعده حين أكد بحسم "أن ما شكل الحاحًا على عقد المؤتمر هو التسريب في القدس المحتلة، وعلى وجه الخصوص من أملاك تابعة للكنيسة الأرثوذكسية على أعتاب المسجد الأقصى في البلدة القديمة" واعتبر أن هذا الأمر يأتي ضمن استهداف شامل تتعرض له الأرض الفلسطينية قائلًا، "وطالما أن القضية تتعلق بالأرض فهي تتجاوز حدود أملاك الكنيسة لتصبح قضية وطنية بامتياز".. هكذا قطع العالول قول كل مشكك ومغامر ومارق.
من بيت لحم جاءت في البدء الرسالة ومنها حسم الوطن أمره، ففلسطين لن تقبل من يهزأ بترابها ويفرط به وأهلها لن يستقبلوا، بعد اليوم، من خان الأمانة والوفاء لرسالة المذود.
غوش عتصيون/ القدس خمسون عامًا على الاحتلال
بمناسبة خمسين عامًا على الاحتلال دعت حكومة إسرائيل لإحياء مهرجان للاحتفال بمرور خمسين عام على استعادة الاستيطان في يهودا والسامرة، الذي أقيم في "غوش عتصيون" قبل أيام. حظرت رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية في حينه مشاركة القاضي هندل في هذه الاحتفالات لكونها ذات طابع سياسي خلافي.
مؤخرًا كشفت صحيفة "هآرتس" عن مشاركة قاضي المحكمة العليا سولبرغ وأبناء عائلته في تلك الاحتفالات معللا مشاركته بصفته الشخصية وبكونه مستوطنًا في إحدى المستوطنات، جاء ليحتفل مع عائلته وأصدقائه في الذكرى ومعانيها.
لن أطيل الحديث عن هذه القضية، فلقد أشرت في الماضي إلى أن المحكمة العليا الاسرائيلية عملت منذ بدء الاحتلال كذراع متممة ومسوغة لجميع ممارسات الاحتلال ضد الأرض والمواطنين الفلسطينيين، وطالبتُ مرارا بإعادة النظر في جدوى مثول الفلسطينيين أمامها؛ واليوم سأترككم مع مشهد هذا القاضي الذي جاء ليحتفل بنصره واستعادة "أرض أجداده" ممن سكنوا عليها، وفي الصباح سيعود إلى عمله في القدس ويحسم، مثلًا، بقضية فلسطيني أتاه متظلمًا ضد مستوطن سلب أرضه، أو ضد أمر عسكري يقضي بهدم بيته، أو في شأن عائلة صدر بحقها أمر إخلاء وما إلى ذلك من مآس يواجهها الفلسطينيون، تخيلوا..
وتبقى القضية فلسطين/ القدس
هي ثلاثة مشاهد تبدو متفرقة لكنها واحدة، فالقدس في عين العواصف أنى رحلت، وفلسطين كانت وما زالت عذراء الشرق المباحة والمشتهاة .
فعد يا "أبا علي" معافى كالبرق "لأريحتك" التي ما زالت تفتش عن أسوارها و"هشامها"، عد وستجد فوق بيت لحم نجمة ساطعة والصوت في وديانها يجلجل هازمًا "هيردوس" العصر، والعدل في القدس يبكي الصخر ويستمطر صحوة "المنظمة" والبشر.
جواد بولس
كاتب فلسطيني