“ عبق الحنين “ نصوص شعرية أخاذة للشاعرة الفلسطينية جميلة شحادة ..!!

بقلم: شاكر فريد حسن

" عبق الحنين " هو الديوان الشعري الأول للشاعرة الفلسطينية ، ابنة الناصرة ، جميلة شحادة ، الصادر عن دار مؤسسة نجيب محفوظ للثقافة في مصر ، ويضم بين ثناياه باقة عطرة فواحة العبير من بواكيرها الشعرية النثرية ، مع اهداء ومقدمة للشاعرة ، ومراجعة نقدية وتحليلية للديوان للكاتب المصري محمد سلامة .

جميلة شحادة شاعرة مرهفة ، تتنفس الشعر حنيناً وخفقات عطاء ، يسيل لعاب حبرها من مداد يفيض انسانية ومحبة ، وتكتب على اوراق الخريف حروفها ، فلنسمعها تقول في قصيدتها الاستهلالية للديوان " في الخريف تبعثرت أوراقي ":

اعشق الخريف كثيراً

واخشاه كثيراً

فحين غابت شمسه

ولم يبق سوى ذاك الشفق الأحمر

وتطايرت تلك الوريقات العليلة

تبعثرت اوراقي

وايقنت أن احدى حكاياتي

سهواً قد سقطت

فكان نصيبي من الحزن ..وفيراً

جميلة شحادة شاعرة وقاصة وكاتبة للاطفال ، تعمل مربية واخصائية تربوية ، وحاصلة على شهادة في االقانون / المحاماة .

كتبت ونشرت الكثير من المقالات الاجتماعية والتربوية والقصص القصيرة والخواطر الوجدانية والنصوص الابداعية في الصحف العربية والمواقع الالكترونية المختلفة ، وصدر لها ثلاث كتب من قصص الاطفال ، وهي : " الكوكب الأزرق ، ضوء ملون ، ابو سليم واصدقاؤه " .

وجميلة شحادة شاعرة تأنس بالقمر ، تعشق وتتذوق الكلمة الجميلة في كل انواع والوان القصيدة ، التي تحرك فيها مشاعر الحب والشجن والحنين والفرح ، والشعر بالنسبة لها هو الاحساس النابع من معين المشاعر وتلابيب الروح وعمق الوجدان ، انه ملاذ بحد ذاته في عالم الكلمة والفكر ، ويضعها وجهاً لوجه امام تفاصيل التجربة الانسانية .

يمثل ديوان " عبق الحنين " لجميلة شحادة انطلاقة جميلة في اصدار دواوينها ، وهي في الغالب تلتزم الحداثة في شعرها الذي يميل وينتمي للقصيدة النثرية ، رغم انها تكتب القصيدة العمودية التقليدية ، التي تتجلى بوضوح في قصائدها الثلاث التي ضمها الديوان بين دفتيه .

ومنذ البداية يكتشف القارىء في نصوصها خصوصية ومساحة شعرية متميزة ، ففي شعرها نسمع صوتاً انسانياً هادئاً يسرد علينا ، دون تردد ، آلامنا وأوجاعنا اليومية  وهمومنا الوطنية والسياسية ، كشعب محاصر ومعذب ومكلوم يعاني التمييز والقهر والخنق والاضطهاد وسلب الاراضي وهدم البيوت ، ومصادرة الهوية والتراث .

قصائد الديوان تعبق بالاحاسيس والمشاعر العاطفية الوجدانية ، مشاعر الحب والحزن والغضب وخيبات الأمل ، وفي الوقت ذاته مشرقة بالتفاؤل رغم كل شيء ، وهي قصائد تعود للبيئة وتعكس الواقع الحياتي ، وتطرح مواضيع انسانية ذات طابع وجداني ، وقضايا اجتماعية وسياسية ، من ابرزها مسألة هجرة اللاجئين الفلسطينيين وحلمهم بالعودة الى ديارهم ، والغربة في الوطن ، والعنف المستشري المتفشي في جسد مجتمعنا العربي ، وزواج البنات القاصرات ، وتطفح بالدعوة الى التسامح والاخاء والمحبة وتصافي القلوب والتحلي بالروح الانسانية ، وتبرز مع موضوعاتها تمكنها من ادواتها الكتابية التي تدعو للتأمل والغوص في المعاني .

تتشكل قصائد جميلة شحادة من الم انساني ذاتي وعام ، وحنين  وجداني جارف ، وانفعال بالحدث والتأثر فيه ، ولحظات صفاء وتأمل وحيرة وقلق ، وتساؤلات ، والحان فرح ، وانغام شجن ، وعطر ذكريات ، وتنهمر شاعرتنا البهية على ارض عطشى لا يملأ شقوقها سوى كلماتها ، وتجوب مرافىء الذات والعام ، وتعتصر وجعاً وأنيناً وعشقاً للوطن ، الذي يترك فيها ذكريات اللاجئين ومفاتيح عودتهم ، وصور طوابين الخبز والطواحين والبيادر واشجار التين والصبار والزيتون والبرتقال والسنديان التي تسكن وجدان المشردين والمهجرين ، وتلتصق بحياة الفلسطينيين :

مسحت دمعة

وخبأت أخرى

لتكون زادها

في طريق عودتها الى الهذيان

هي لم تثق بحديث الطيور

عن مخاطر هجرتهم بمراكب الريح

وغضب أمواج البحر ... ساعة الهيجان

هي لم تثق بحديث الطيور

أن رحلتهم ، بلا عنوان

وأن بلاد العجم

ليست مفروشة امامهم بالبيلسان

                   ( قصيدة حديث طيور مهاجرة )

قصائد " عبق الحنين " تظهر شاعرية عالية ، ووجدانيات سامية ، ووطنية صادقة ، والتزام حقيقي بقضايانا وهمومنا ، وعواطف جياشة ، وحسن اوصاف ، وجمال صور ، ورقة مشاعر ، وشفافية عبارات :

من بين أنين الردم

غداً سيزهر الزعتر

ومن خلف ركام العمر

سيورق عوده الأخضر

فالأرض ... رؤوم بنيتها

عزيزة في بأسها

ومن عاتيات الريح لا بد أن تسخر

وتطل من حنايا بيت يسكن في الروح

وفي صحراء الحلم السرمدي يسهر

وبقايا زمن قد تكسر

لتخبىء في صناديق

ذكرى من زمرد ...وعاج ومرمر

              ( قصيدة عبق الحنين )

وتبث جميلة فينا فكراً وحساً انسانياً صادقاً وخالصاً ، ووجداناً ، وايماناً ، وتفاؤلاً ، فناً وموسيقى ، وسبك عبارة ، وجمال كلمات :

هناك ...خلف الحد الفاصل للوجع

تطل على غد لها ...جديد

ترقب انبلاج فجر

وطيف فرح قادم من بعيد

اوجعها المكوث في الظل

وملت ... رفقة وحدتها

وها هي ... تقف على عتبة عهد تليد

ساءلت حالها على عجل ...

وكأنها تخشى لوم رقيب وحسيب .. ووعيد

كم مرة تابعت أسراب العصافير المهاجرة ؟

وكم مرة شقيت بقدوم صيف ... كالجليد ؟

               ( قصيدة غداً ...فجر جديد )

يقول الكاتب محمد سلامة : " جميلة شاعرة ذات طبع من طراز متطور ، فهي لا تكد قريحتها كثيراً في اجتياح عالمها الشعري والتحليق فيه بكل اقتدار ، وهي ايضاً تتجنب الاستنزاف الابداعي في لغتها ، ولا تميل الى المماحكة في صنعة الشعر ، بل تجتلب المعاني الشعرية البديعة وتلبسها من أواسط ما تلبس من هندام ألفاظها ، فنجد عندها رحابة الرؤيا وسلاسة أفكارها مع بساطة التعبير الممتنع ، ولعل أهم ما يميز شاعرتنا المحافظة على جوهرتين ثمينتين ، قلما يجمع بينهما شاعر قويم ، هما : المحافظة على جوهر الشعر وجذوته المتوهجة ، والمحافظة على الهوية الثقافية النابعة من روح الأمة ووعيها ، فلا تجازف بها ، ولا تضطرها الملكة الشعرية الى مضايق الشعر أو ترديها في فخ المراهقات وفتنة الموهبة .

وتخاطب جميلة شحادة في قصيدة ״ يا قدس " زهرة المدائن ، ومدينة الصلاة ، القدس العتيقة العريقة التي يغازل وجهها القمر ، التي بكت شاعرتنا على " عتبة قيامتها ندماً " " وأشعلت دموعها نار الحزن والحرمان " فتقول :

يا قدس يا عتيقة ! يا قمراً  مضيئاً الأركان

طفت بحواريك لأنتمي

فازدادت غربتي ، وأوجعني خبث الاستيطان

يا قدس يا عتيقة ! يا أبهى ما في الكيان

لوحت لأسوارك من لهفتي

فنأى بي صمودها ، عن صدى سكون الجدران

يا قدس يا عتيقة ! يا زهرة بديعة ، تزين المكان

سجدت على أبوابك

لأدعو الله أن يغفر لي حبي لك

فذابت حروف كلماتي ،،، وسمت النفس بحبك

وتألقت بجلالك الأذهان

وتناجي جميلة شحادة ايضاً بلدها " الناصرة "، ناصرة المحبة والأخاء والسلام ، ومنبت السوسن والاقحوان ، الراسخة والباقية في القلب والوجدان ، المدينة السخية التي " يشهد على طيبها ملقاها حجاجها الكرام " و" يتغنى بحسن ضيافتها زوارها من كل البلدات " ، وتحذر من الايدي الشريرة ومطمع الطامعين بالفتنة والتفرقة الطائفية :

ناصرة ... أنت مطمع للطامعين بشرفك الغالي

فكوني منيعة ... وتمسكي بالمحبة والتآخي

الدين لله ...يا زهرة البلدان

وأنت لأهلك من كل المشارب والأديان

تمسكي بعزك ، بمجدك ، بالانسان

وكوني حصينة من الفتنة ...

لا بوابة للغزاة ... كما كنت للرومان

عندها ... يطيب العيش فيك

ويهنأ أهلك بالوئام والأمان

وفي قصيدتها الأخيرة في الديوان تعود جميلة وتخاطب المقدسيين ، الذين يواجهون خوذات ورصاص وبنادق المحتلين والمستوطنين ، هؤلاء المقدسيين الذين يستشهدون دفاعاً عن الأقصى المبارك ، وتشيد بمقاومتهم لجند الاحتلال والمستوطنين العنصريين ، وتعلنها بصوت عال انها تفتخر بهم ، وترفع اسمى آيات ورايات التقدير لصغيرهم وكبيرهم وكهلهم ، وراية الاجلال لنسائهم ورجالهم ، فتقول :

قولوا لي

ما سر جريان الشهامة في دمكم ؟

والأصالة والكرامة

والعزة والنخوة في عروقكم ؟

دلوني على مورد صبركم

وأناتكم وعزيمتكم

ونبع التآخي ... حتى وقف المسيحي

مع المسلم في صفكم

أنبأوني عن فيض ايمانكم

ومكمن السكينة في نفوسكم

وكيف لسجادة طاهرة

تحكي بدل السيوف عن قضيتكم ؟

وتتجلى عاطفتها الرجدانية وانسانيتها الدافنة في قصيدة " أمي ... تعالي الليلة نسهر " الطافحة بالوجد الذاتي،  والتوهج الشعوري الانساني ، التي تحاكي فيها ست الحبايب التي اشتاقت اليها ،:

وكم ... أحب زمرة عينيك ... وياسمين خديك ؟!

اشتقتك ... تعالي الي الليلة نسهر

فعندي لك حكايا وأكثر

تعالي ... لا تترددي

واعبري روحي لأقبل جبينك

وأمسد شعرك الأشقر

ونلمس هذه العاطفة القوية كذلك في قصيدة " نحن النساء ... كلنا الخنساء " التي تفيض بالدفق الشعوري والاحساس المرهف والتعابير الجميلة ، وكم كانت تود لو كانت كل قصائدها " غزل في القمر والنجمات " و" وصف براءة الأطفال " وليس " آهات محزونين في الحياة والممات"  ، فلنصغ اليها وهي تتساءل :

لكن بربكم أخبروني :

كيف يقطر يراعي حباً

ويبوح بعشق ليلى وعبلا

ويسرد قصص الأميرات ؟!

وكلنا خنساء

والدم يسفك في كل مكان

ومن كل الجهات ؟!

ثم تقول :

نحن يا سادة ! وجبتنا الصباحية دسمة بالطائفية

وغداؤنا وفير بالجاهلية

أما عشاؤنا ... ف عنفاً وعنجهية

ثم نحلم بالانسانية ... فقط في المنامات

فكم انت صادقة يا جميلة بوصفك وتعريتك لواقعنا البائس !!!

ويحتوي ديوان جميلة شحادة على ثلاث قصائد من الشعر العمودي التقليدي ، وهي " أقبل العيد " و" زفاف قاصر " و" رمضان " ، وفي قصيدة " رمضان "تتحدث عن شهر الصيام والمكارم والتقوى والاحسان ، وليس الامساك عن الطعام ، وتتوجه للصائمين الى الصوم " عن أذى الناس بالفعل والكلام " ، وتهذيب صيامهم والشعور بالفقراء والأيتام ، والعمل على نشر المحبة والوئام ، فتقول في ختام القصيدة :

رمضان وان بعدت النفوس طول العام

                  رقت فيه القلوب وأوصلت الأرحام

رمضان شهر من أشهر الحرام

                   لا دم فيه يسفك ولا اجرام

فاهجروا شجاراً واقتتالاً وانقسام

           وادفنوا الحرب واغمدوا سيوفاً وسهام

لتهنأ الأوطان بالأمن والسلام

           وتشرق الشمس في اليمن وبلاد الشام

قصائد ديوان " عبق الحنين " تشهد على شاعرية جميلة شحادة ، حيث الصورة الفنية والمعنوية ، وصدق العاطفة والمشاعر ، وعمق التأثر والتأثير ، فهي تصارع الواقع المشحون بالاحباط واليأس ، وتبعث فينا أملاً قوياً في النهوض والغد الأفضل ، والمستقبل القادم لا محالة .

ما يميز تجربة جميلة شحادة في ديوانها الشعري الأول هو التنوع والتلامس بعمق مع نهر الحياة ، والاقتراب بلغة الشعر من الحياة اليومية بنصوص متنوعة والوان متدرجة في القوة والايحاء ، انها تملك أدواتها الفنية والشفافية المدهشة والوضوح الجلي واللغة الداتية ، وبساطة التراكيب ، وعمق المعاني ، وتنفتح على تأويلات متعددة تتيح للقارئ التحليق مع قصيدتها في عوالم شتى في آن واحد .

وهي تتعلق بصور الجماعة ومظاهر الحياة ، والتمسك بالقيم ، والغناء على قيثارة الشعر لنقل الذات الى فضاء الكلمة الحية المتجددة .

جميلة شحادة غيمة بيضاء تمطر على أرض ظمآنة للحب والوفاء والتسامح بديلاً للعنف ، وعطشى للروح الجميلة والانسانية المهذبة التي تشبه روح جميلة ذاتها ، ويشكل ديوانها الأول " عبق الحنين " اضافة نوعية وكمية للشعر الجميل الرقيق الناعم المنساب البوحي العفوي الصادق ، وكلي أمل أن يجد اهتماماً من القراء والنقاد والدارسين على حد سواء ، مع خالص التحيات والتمنيات لصديقتنا الشاعرة جميلة شحادة بدوام العطاء والزهو الاشراقي الادبي ، والمزيد من الاصدارات ، والمستقبل  الابداعي امامها .

بقلم : شاكر فريد حسن