لا شك بأن الأيام الماضية كانت تتحدث عن الكثير حول تطورات المصالحة الفلسطنية، وقليلين هم من المطلعين على التفاصيل، أو بالأحرى على الأسباب الحقيقية وراء هذا التحول الدرامتيكي من كلا الطرفين في قبول المصالحة فيما بينهما.
البعض رأى أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس خشي تفاهما بين دحلان وحماس وإن كان برعاية مصرية لذلك شعر بأن الكل بات متآمرا عليه ويريد سحب البساط من تحت أقدامه،
لذلك رأي الرئيس الفلسطيني محمود عباس ضرورة ملحة في ان يقوي نفسه بالتحالف مع حركة حماس والتي تسيطر على قطاع غزة، فهو بذلك يكون قد حقق المصالحة لتنحية دحلان من جهة وسيضمن إستمرار الوضوع القائم من جهة أخرى، وليس لإتمام المصالحة، وقد نجح مرارا من قبل في مثل هذا التكيك.
ايضا البعض رأى أن عباس استجاب للضغوط الأوروبية، والتي حملت في طياتها تهديدات بقطع المساعدات المالية إذا استمر في اجراءاته التعسفية ضد سكان قطاع غزة، مما دفعه للقبول مرغما للقبول بهذه المصالحة.
وبذلك يضرب عصفورين بحجر واحد ، الأول هو الخروج من مأزق الضغوطات الدولية التي باتت ترى فيما يمارسه ضد قطاع غزة جريمة ترتقي إلى الجرائم الإنسانية في القانون الدولي ولربما إن بقيت صامتة عليه يطالها تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن ذلك، والأخر يتمثل في وقف التفاهمات بين حماس والقاهرة التي تتبنى عمليا في هذه المعادلة موقف دحلان،
كما أنه من المعروف عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه رجل يتمتع بدهاء بالغ ، وبالتالي ليس غريبا عليه أن ينحي كل الدول العربية الأخرى ويرتمي صراحة من جديد في حضن مصر، ليعزف لها سميفونية الولاء بحرارة غير معهودة من قبل ، بعد أن وجدها تحمل في هذه المرة عصا غليظة مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية واللجنة العربية الرباعية، ليطلب منها بتودد مقابل قبوله وساطتها، وقف التفاهمات التي تمت رغما عنه ما بين حماس ودحلان في القاهرة، وهو يعلم مسبقا بأن ذلك لن يتم، هذه التفاهمات التي كانت قد حققت انفراجات نسبية في عدد من الأزمات التي تواجه قطاع غزة منها أزمة المعبر وأزمة الكهرباء.
هنا لابد من الإشارة إلى حقيقة أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس كان مأزوما في شرعية حكمه نتيجة فشله السياسي، إلا أن الحقيقة أيضا تقول بأن الأطراف الأخرى كانت في وضع مأزوم .
ومن هنا ، هذا يحتاج إلى فكفكة سلوكيات جميع الأطراف في هذه المعادلة كافة حتى نتعرف على حيثيات هذه المعادلة بدون تعقيدات، حتى نصل من خلال ذلك نتوصل إلى نتيجة منطقية مفادها أنها مصالحة إنحناء أمام العاصفة وليس مصالحة في إطار رغبة وطنية حقيقية.
فإن بدأنا في الحيثيات الحقيقية في تطور العلاقة ما بين دحلان وحماس سنجد أن كلاهما كان مأزوما وكل منهما كان بحاجة للآخر ، فدحلان المجروح والمفصول والمتهم لم يكن ذلك الشخص الذي يقبل ما فعله عباس به بطريقة مهينة بسهولة، وما صاحب ذلك من شدة الهجوم عليه والتشكيك والتخوين والتشهير به، ومع ذلك تعاطى برباطة جأش يحسد عليها بالرغم من محاصرته بالشائعات التي لا تتحملها الجبال ، كما عمل الرجل المعروف عنه عدائه الأيدولوجي لتنظيم الإخوان المسلمين بحنكة على إحتواء حركة حماس وعمل على بناء جسور تحالفية معها ، ولتحقيق ذلك لربما أنه جرب عدة طرق للوصول إلى هذا الهدف ولم يفلح ولكنه لم ييأس، وبعد ذلك خدمته الظروف في السنة الأخيرة كما يبدو بأنه وصل إلى عنوان فكفك من خلاله طلامس الصعوبات التي كانت تعرقل تسجيل أي إختراقات في هذا السياق.
كان ذلك في فترة بالغة التعقيد وكانت حركة حماس تبحث بأي طريقة عن منجد لها من الطوفان الذي كانت تواجهه نتيجة ضغوطات عباس عليها ، فكانت أول فكرة لهما هي إنعقاد المجلس التشريعي في غزة بحضور نواب تيار دحلان ونواب حماس، ومنذ تلك اللحظة بدأت تتبلور العلاقة بين الطرفين وبات دحلان هو اللاعب الأساسي الذي يعمل من أجل توفير غطاء يحمى حركة حماس من التحديات التي تواجهها، وكان ذلك واضحا عندما تدخل شخصيا ورفع إسمها من قائمة الإرهاب التي أدرجتها دول اللجنة الرباعية العربية خلال الأزمة الخليجية مع قطر، ومن ثم نال فرصة لإلقاء كلمة أمام جلسة أخرى للمجلس التشريعي أمام نواب تياره ونواب حركة حماس وذلك في مدينة غزة ايضا ، ومن هنا بات القلق يزداد ويجتاح مقاطعة عباس.
بالتزامن مع ذلك سمحت مصر لتيار دحلان بأن يقوم بعدة نشاطات مهمة على أراضيها ومنها عقد عدة مؤتمرات حضرها المئات من أبناء قطاع غزة والضفة ، ومن ثم أشرفت القاهرة رسميا على لقاء حمساوي دحلاني، وصف بأنه كان ناجحا ، ونتج عنه تفاهمات إستراتيجية وتكتيكية في إطار تفاهمات بين الطرفين ، حينها نتج عنها رعب في منظومة عباس.
هذا جعل عباس يضع في البداية شرط واحد أمام موافقته على المصالحة ، وهو أن يتم تفكيك الحكومة الموازية اللجنة الإدارية التي شكلتها حركة حماس في قطاع غزة كتكتيك منه لفتح الأبواب التي باتت موصدة أمامه ، وللإلتفاف على الضغوطات الدولية التي مورست عليه من أجل التوقف عن سياسة حرق الوقت التي خدمته بقوة ونجح من خلالها بالمحافظة على بقاء منظومته بإمتياز، ولكن بعد ذلك رفع سقف شروطه لتكون أكثر تعقيدا في إطار المناورة التي يجيدها ، وهو يدرك بأن بعضها شديد الحساسية ومستحيل القبول بها فورا ، حصل ذلك في تقديري على أمل أن تفشل خطوات تحقيق المصالحة التي وافقت عليها جميع الأطراف وهو على رأسها منذ البداية، وبذلك يبعد عن نفسه فشل هذه المصالحة بدون أن يتحمل مسؤولية ذلك، ولكن يبدو أن الظروف حاصرته ولم تخدمه في تحقيق ما كان يريده حتى اللحظة .
من هنا نستطيع القول بأن المصالحة الفلسطينية دخلت محور الإحتواء ورسم التحالفات من جديد بدلا من سياسة التصادم والإقصاء التي لم ـاتي بنتيجة، وذلك من خلال إرغام الجميع على القبول بذلك وليس تركهم لرغباتهم التي لن تحقق ذلك.
فعباس مثلا يريد أن يتحالف مع حماس في الإنتخابات القادمة مع إعطائها ضمانة بحصولها على حصتها في هذه الإنتخابات المنشودة إن تحالفت معه كمرشح رئاسي، وحماس تبحث عن طوق النجاة لها من تدمير شامل لكل هيكليتها ، بات يواجهها بقوة بعد حصار قاسي جعلها في مواجهة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وذلك بخلق جسور مع كل الأطراف، وهذه اللعبة هي التي لا زالت تجيدها بإمتياز ولكنها باتت مكشوفة.
أما دحلان فهو يريد على ما يبدو أن يعود إلى فلسطين من خلال بوابة الفروسية الوطنية كمنقذ وليس كمتصالح فقط، وذلك بهدف الحصول على رد إعتبار كامل لا زال يواجه تحديات في طريقه، حيث أنه لربما يكون في نظر البعض غير مستحق في ظل التشويش الذي هدف إلى تغييب ذاكرة المواطن الفلسطيني وتسكينها بروايات متضاربة وبعضها ظالم بلا شك ، ولربما خادعة وكاذبة ومظللة ، والسؤال يبقى هنا ، هل من السهل عليه أن يتجاوزها ويستطيع تذليلها ، هذا في تقديري بات هدف دحلان الذي لا يخفى على أحد حيث أنه يطمح لأن يصبح الرئيس القادم.
أخيرا، يبقى هذا الملف ساخنا لأن مصر تدرك بأن دحلان بالنسبة إليها هو جزء من المعادلة التي تحفظ أمنها القومي حتى لو كان ذلك بطريقة غير مباشرة من خلال تحالفات مصر ، العربية و الإقليمية والدولية ، وبالتالي لربما يكون غزل عباس المبالغ فيه لمصر عندما كرر بأنه لا يقبل أي وساطة أو تدخل لأحد في الملف الفلسطيني غير مصر ، كان يقصد بذلك إسترضائها قبل غرق السفينة حيث لم يعد أمامه أي خيار آخر، وهو يعلم بأن الأردن والسعودية والإمارات لم تكن غائبة عن موقف مصر هذا وبالتالي هو يدرك جيدا ثقل موقفها .
مما سبق يتضح لنا، أن حماس دخلت المصالحة متعطشة إليها كطوق نجاة لها ، وعباس دخل إليها مرغما لا متطلعا إليها أو راغبا بتحقيقها، وهو حتما لا يريدها ، ولربما يفاجئنا ويذهب قريبا ايضا مرغما لمصالحة فتحاوية مع دحلان وهو يمقتها، لكنه حتى اللحظة لم يقم بأي خطوة عملية وملموسة لإتمام الأولى حتى يبدأ بالمصالحة الثانية ، بالرغم من أنه بات يعرف يقينا، بأن حماس أصبحت ذات علاقات راسخة بالإقليم من خلال مصر ودحلان، وليس من السهل الإنقلاب على أي اتفاق معها تم برعاية مصرية وبدعم وموافقة دولية وإقليمية في سياق تفاصيل متطلبات تتعلق بصفقة القرن المستقبلية برعاية أمريكية.
بقلم/ م . زهير الشاعر