الكل يعلم أن التناقض الفلسطيني الداخلي بلغ أشده، ولن ينتهي بنوايا كنية التوقف عن السجائر لدى مدخن شره، والحديث عن نضج سياسي مبالغة تتجاوز الحقائق، لأن حماس نشأت كبديل لفتح، التنظيم الرئيسي الوحيد في منظمة التحرير، وليس شريكا، والشراكة لم تنجح في جماعات الاسلام السياسي الوطنية وغير الوطنية، إلا ضمن التحالف الرئاسي في الجزائر عندما أردت السلطة فقط ومن اجل الانتخابات فقط.
أما حركة فتح فترى أنها "أب" المشروع الوطني، تمتلك النضج السياسي والخبرة من تجربة الطلقة الأولى والكرامة وقلعة شقيف حتى لجنة التواصل مع المجتمع الاسرائيلي بقيادة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمد المدني، وترى حركة فتح أنه من حق الاخرين المعارضة أو المشاركة لكن بمقدار لحظة الوعي لدى "السلطة" التي أصبحت التزامات وكيانات ورؤية بلغت ذروتها في خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة في خطاب الرئيس أبو مازن ونبرته وانفعالاته وتلويح يده، لأن سرداب السلطة لا توجد فيه خطوات للخلف، وقالها أبو مازن لا لحل السلطة بل انتقال لدولة أو فراغ مفتوح على كل الاحتمالات.
بين الوريث المتأهب والأب العنيد، لا يمكن "التسوية" على طريقة نهاية الأفلام الهندية، بالتأكيد لم يحدث شيء واحد في هذه السنوات العجاف والظروف العربية المتغيرة، هنا وهناك أسباب كثيرة وأسرار لم يكشف عنها الاتفاق الأخير أو المؤتمر الصحفي المسجل تحت صرامة جهاز المخابرات المصرية.
التنازلات التي سيقدمها الطرفان مع الكثير من الكلام المعسول والتصريحات المحسوبة، تؤكد أن الخطوات من الطرفين ستكون متزامنة وهذا يبرهن على غياب الثقة، في ظل مئات الألغام أو التفاصيل على الأرض بشكل مترابط ومتشابك، وفي كثير من التفاصيل سيكون الضابط المصري الحكم وربما أكثر.
الصيغة المصرية هي مكسب مقابل مكسب ولكل طرف أوراقه وحساباته، والأهم هو عامل الوقت والزمن بانتظار اكتمال ترتيبات المنطقة لاستقرار متوسط المدى وهو الخيار الثاني، أو ترتيبات اشعال المنطقة من جديد في خيار يبدو أقرب في ضوء امتدادات الصراعات الاقليمية لأعماق دولية جديدة.
اذن الوقت والانحناء أمام غموض "جداول الاعمال" للمناورة من داخل الترتيبات وليس من خارجها، فحركة حماس تحت المدفع الاسرائيلي، وقرار القصف صدر من ترامب في قمة الرياض، مع اتاحة الوقت لحسابات وقدرات مصر لتوجيه الانذار الأخير للحركة الاسلامية صاحبة الملف الثقيل في الأدراج المصرية، أما قطر منشغلة في "معركة تصفية حسابات" تمرد الشاب على الشيوخ بعد رحيل مظلة باراك أوباما ونهاية تأثير سياسته الخارجية، والحرس الثوري الايراني لم يعد بحاجة لشباك غزة ليطل على اسرائيل بعد أن أصبح له بوابة قرب الجولان وفي اللاذقية، مع رئيس لبناني يميل لمحور طهران ويتقي شر محور الرياض.
وتعلم حركة حماس أن المنابع جُففت، وحاجة غزة أكبر وغضبها أكثر، ولم يعد هناك مصادر للمال، الأنفاق تحت فوهة الدبابة المصرية، وعائدات كرم أبو سالم تراجعت، وحركة السوق خفت بقرار من السلطة، والعقوبات المنفذة فقط (20%) كما يقول عزام الاحمد، بعد ذلك سياسة كسب الوقت بنفس الادوات هروب للأمام دون أمل، والرهان على انتفاضة الضفة كان أكبر من الممكن في معادلة 120 ألف عامل فلسطيني يعرف قيمة الشيكل الاسرائيلي، وقيمة التصريح، لأن ذاكرة عمليات السور الواقي لازالت ماثلة وحصار المقاطعة لم يكن خط أحمر.
اذن.. الوقت مطلوب لاكتشاف النوايا بالنسبة للرئيس أبو مازن وهو يرى الاستيطان يجري حول دولته الموعودة، وأمريكا تعلن "الاحتلال مزعوم بعد أن تخلت عن مبدأ حل الدولتين"، كما يتابع الادارة المدنية تتوسع في "يهودا والسامرة"، وليس بعيد عن ذلك الرباعية الدولية تتلاشى، وتترك الفراغ للرباعية العربية، وقد يكون أبو مازن مطمئن لحسابات الملك الأردني غرب وشرق النهر، وكذلك الملك وفاء الملك سلمان لمبادرة اخيه الراحل، لكنه ليس مطمئن لاستقرار الأردن بعد استقرار سوريا، وموقف ولي العهد السعودي الشاب غير معلوم هل سيكون كوالده أم أقرب لولي العهد في أبو ظبي، والقاهرة لها حساباتها الامنية والاقتصادية، وسياسيا هي تبصر استسلام العرب لأكثر مما طالب به السادات في لحظة توازن القوة المفقودة في زمن التمدد الايراني.
كذلك يدرك "أبو مازن" أن صفقة السنوار مع تل أبيب تتضمن الافراج عن الأعلى أصواتا في انتخابات فتح الأخيرة، مروان البرغوثي، وقد تشهد حركة فتح خسارة داخلية جديدة بعد استنزاف النائب المفصول لجمهورها المتحرك في غزة، والمترقب في الضفة في لحظة سياسية قادمة ومختلفة، صحيح أن دهاء أبو مازن كبير والأوراق بيده -وهي بالمناسبة "أوراق أخلاقية" في لعبة السياسة الأقرب للقذارة-.
الحسابات السابقة شديدة الصعوبة والتعقيد، لذلك لا مانع من تنازلات تحفظ ماء الوجه، ولا تخرج عن حسابات الترتيبات الجديدة، مع وقت اضافي للعب من الداخل، لأن صفقة القرن ليست قدرا، والرؤية الأمريكية لم تعد منفردة في وجود روسيا والصين، ومصر لن تقبل بحل على حساب أرض سيناء المخضبة بالدماء قديما وحديثا، واسرائيل قادرة لكنها غير مرغوبة في ظل ثلاثي (نتنياهو – ليبرمان – بينت).
ما يقال في الصالات الدولية المغلقة، رغم حالة النضج التي شكلها أبو مازن أمام المجتمع الدولي، إلا أن كل الفلسطينيين ليسوا بهذا النضج، ويحتاجون شقيق أكبر ومرحلة انتقالية، واذا كان الحكم الذاتي انطلق من غزة– أريحا، فلماذا لا تبدأ الدولة من غزة ويتعلم الفلسطينيون التعايش في كنف "دولة تحت الاختبار والرقابة"، ويقرر العالم في قمة لاحقة في شرم الشيخ أو الرياض أو .. جدول زمني لدولة فلسطينية منزوعة الدسم بقعل الأمر الواقع الاسرائيلي في عام 2022 مثلا.
السؤال يبقى أين الضفة والقدس، الأخيرة مخططها الدولي موجود ليصلي أصحاب الديانات الثلاث ويتسوقوا ويغادروا، أما الضفة بالتأكيد ستكون الجغرافيا فيها مختلفة في حال دخلت اسرائيل حرب الشمال، وفي الحروب تتغير الجغرافيا والديموغرافيا.
أخيرا.. الحق الفلسطيني قد يتأخر لكنه حتمي، رغم ان النضج الفلسطيني تأخر منذ نهاية سنوات أوسلو الخمسة عام 1999، أو منذ فشل مفاوضات فتح وحماس عام 1990 في صنعاء، أو في الخرطوم عام 1991 أو في لقاءين متتاليين بتونس أواخر 1992 وفي السودان مطلع 1993.
في السياسة لا يمكن العودة للخلف، والحاضر محكوم بحسابات الخلاف على ادارة سلطة بدون سلطة، ومفهوم الامن توظيف وعقيدة هو انشغال داخلي ذاتي، في ظل سيطرة الخوف من ازاحة واحلال فلسطينية – فلسطينية، مع ان اسرائيل تمارس ذلك بوضوح، أما المستقبل فهو ملك أجيال أثق في تمسكها بحقوقها، فلا مكان في العالم يتسع لستة ميلون مشاغب، لكني أخاف ممن سيقودها، من أجل أبنائي أتمنى أن يخيب ظني.
بقلم/ عامر أبو شباب