كثيرة هي المرات التي نجحت فيها الفصائل الفلسطينية في أسر جنود إسرائيليين ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين، منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، عبر ما يُعرف بـ "صفقات التبادل" بوساطة جهة ثالثة، وأن التاريخ الفلسطيني المقاوم حافل بالعديد من "الصفقات"، بدءا بالصفقة الأولى التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتاريخ 23 تموز/يوليو1968، ومرورا بالصفقة الأكبر التي أنجزتها حركة "فتح" في 23 تشرين ثاني/نوفمبر 1983، والصفقة الأروع والأكثر زخما من بين تلك "الصفقات" والتي نفذتها الجبهة الشعبية-القيادة العامة في 20 آيار/مايو1985، وليس انتهاء بصفقة (وفاء الأحرار) التي أنجزتها "حركة" حماس" في 11تشرين أول/أكتوبر عام 2011.
وعلى الرغم من أن التاريخ الفلسطيني حافل بـ "صفقات التبادل"، إلا أن صفقة "شاليط" أو ما تُعرف فلسطينيًا بـ (وفاء الأحرار) تنطوي على دلالات عدة وتتميز عن غيرها؛ كونها الصفقة التاريخية الأولى التي تمت بنجاح فوق الأراضي الفلسطينية، وشكّلت انتصارًا تاريخيًا للمقاومة الفلسطينية يُكرس أهمية القوة في تحرير الأسرى وقدرة المقاومة على فرض شروطها وارادتها بعد غياب استمر لسنوات طويلة.
وللعودة الى أصل الحكاية في25 حزيران/ يونيو 2006، نجد ان المقاومة حققت انتصارا أثبتت من خلاله قدرتها على تنفيذ عملية فدائية نوعية، أطلق عليها "الوهم المتبدد" نجحت خلالها في أسر الجندي الإسرائيلي "شاليط" وهو يرتدي لباسه العسكري ومن داخل دبابة كانت تقوم بمهام عسكرية على تخوم قطاع غزة، وهذا يُعتبر النجاح الأول.
وأن الاحتفاظ بـ "شاليط" لأكثر من خمس سنوات في مساحة ضيقة (قطاع غزة) وإفشال كل المراهنات والمحاولات الإسرائيلية الهادفة إلى استعادته بالقوة شكّل "نجاحًا ثانيًا". فيما النجاح الثالث كان حينما فرضت حركة "حماس" (التبادلية) وحققت مبتغاها بإتمام صفقة تبادل الأسرى، تحرر بموجبها (1027) اسير واسيرة رغمًا عن الاحتلال وأجهزته المختلفة.
وبالرغم من تلك النجاحات الباهرة، التي شكّلت بمجموعها انتصارا عظيما للمقاومة الفلسطينية وإضافة نوعية للتاريخ الفلسطيني المعاصر، إلا أن ثغرات عدة ومؤلمة تخللت تلك "الصفقة"، ولعل أبرزها: ضبابية نصوص الاتفاق وغياب الوضوح، للأسير المحرر وكذلك المتابع، حيث لم ينشر الاتفاق لغاية اللحظة ولم يطّلع المحررين على تفاصيلها. وأن "الضمانات الفعلية" التي يمكن أن تُلزم الاحتلال بترجمة ما أتفق عليه، أو كبحه في حال انتهاكه وتجاوزه للاتفاق "قد غابت" هي الأخرى. هذا بالإضافة الى الموافقة على ابعاد المئات من المحررين الى غزة والخارج، واستثناء عدد من الأسيرات، وما ترتب على ذلك من ابقاء الأسيرة "لينا الجربوني" لخمس سنوات ونصف اضافية، وعدم نجاح "الصفقة" في اغلاق ملف "الأسرى القدامى" الذين ما يزال العشرات منهم ينتظرون من يكسر قيدهم.
ان تلك الثغرات وغيرها، لم تقلل من شأن "الصفقة" وأهميتها ولن تؤثر على ما حققته من نجاحات. فيما اليوم فان كافة الفلسطينيين يُعلقون آمالًا كبيرة على ما لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من أوراق مهمة تمكّنها من اتمام صفقة تبادل جديدة تُعالج تلك الثغرات وتحقق نجاحات جديدة وتضمن الإفراج عن الأسرى القدامى ورموز المقاومة وكافة الأسيرات والأطفال وممن تحرروا في تلك الصفقة وأعيد اعتقالهم.
ولا شك بأن هذا الملف فتح مرارًا في عواصم عربية وأوروبية مختلفة، وأن العديد من المسؤولين الأمميين الذين زاروا غزة بعد الحرب الأخيرة (2014)، قد تطرقوا لهذا الموضوع. وأن هذه القضية كانت حاضرة مؤخرا في العاصمة المصرية (القاهرة)، ولدينا ثقة بقدرات حركة "حماس" على إدارة هذا الملف، ولكن من الواضح ان الحكومة الإسرائيلية لا زالت غير جاهزة لدفع استحقاقات التبادلية التي تطالب بها حركة حماس، وهي (حماس) محقة بها، في ظل المعطيات القاسية التي تحاكي واقع الأسرى.
وبالرغم من ذلك فاليوم اعتقد وفي ظل التطورات الأخيرة، أننا أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق صفقة تبادل جديدة، وانجاز (وفاء الأحرار2) وربما تكون في النصف الأول من العام القادم.
في الختام نؤكد على أن التعنت الإسرائيلي والسلوك الشاذ في التعامل مع الأسرى والمعتقلين، يعزز الشعور لدى الفلسطينيين بأن خيار القوة المتمثل في أسر الجنود هو الخيار المجدي لكسر قيد الأسرى وتحقيق حريتهم، واذا كان الشعب الفلسطيني يريد أن يفرح بالإفراج عن أسراه من خلال التسوية والمفاوضات وبدون قطرة دم، فان إسرائيل ترفض ذلك، وكأنها تدفعهم قسرا الى هذا الخيار الذي أثبت جدواه.
والحقيقة المرة التي يجب أن ندركها جميعا، أن إسرائيل مهما أفرجت عن أسرى، في إطار صفقات التبادل، أو عبر المفاوضات، فهي قادرة على إعادة اعتقالهم، واعتقال أضعافهم، ما لم يتم التوصل إلى حل سياسي شامل، يضع حداً لتلك الاعتقالات المرتبطة بوجود الاحتلال، ويُعالج المشكلة من جذورها. فقضية الأسرى سياسية بامتياز، ولا يمكن حلها جذرياً خارج هذا الإطار. وما الوسائل الأخرى، إلا معالجات مؤقتة.
ويبقى الثامن عشر من أكتوبر يوما انتصرت فيه المقاومة وكسرت قيد السجان، فهنيئا لمن تحرر وهنيئا لمن جعل من ذاك اليوم تاريخا تتوارثه الأجيال وتردده الألسن بفخر وعزة.
بقلم/عبد الناصر فروانة