منذ بداية النصف الثاني من العام الحالي، عاد موضوع المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام إلى واجهةِ الأحداثِ السياسيةِ المحلية والإقليمية، وأخذَ بُعداً دولياً بحكم التدخّلات التي تركت تداعياتها على المشهد السياسي الفلسطيني منذ وقتٍ ليس بالقصير.
اتفاق المصالحة الذي وقّعَ في القاهرة، خلال شهر أيلول (سبتمبر) الماضي 2017 لم يكن تتويجاً لحوارات فلسطينيةٍ- فلسطينية أو لقاءاتٍ لتنفيذِ اتفاق القاهرة لعام 2011 والموقع بين جميع الفصائل، فقبل ثلاثة أشهر فقط كانت هناك حوارات ولقاءات بين حركة "حماس" ومجموعة محمد دحلان المنشق عن حركة "فتح" والاستخبارات المصرية وفي غياب السلطة الوطنية الفلسطينية، وفيها تم التوصل إلى تفاهماتٍ حول إدارة قطاع غزة فقط! لكن فجأة توقفت التفاهمات بين "حماس" ودحلان، حين لاح ما سمي "الصفقة الكبرى أو صفقة القرن" المتوقع طرحها أميركياً، وهذه لا يُمكن أن تتم من دون منظمة التحرير، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وفي حالة عدم تجاوبها سيتم تجاوزها بذريعة أنها ضد التسوية السياسية.
الحديث عما بات يعرف بــ "صفقة القرن" أثار أجواء سياسية مُلتبسة في الساحةِ الفلسطينيةِ، ففي العلن لم يتم حتى الآن طرح تلك الأفكار التي جرى تسريبها، وبقيت في حدود الديبلوماسيةِ السريةِ، على رغم بعض التحركات التي حملت معها العديد من إشارات الاستفهام.
وعندما نتحدث الآن عن المصالحة الفلسطينية، وهي في كل الحالات مطلب شعبي فلسطيني، نتحدث عن معطياتٍ جديدةٍ دفعت باتجاه إقلاع قطار المصالحة في هذا الوقت بالذات، حيث فشلت كل الجهود التي بُذلت في السنوات السابقة، بعد ما يزيد من عقدٍ من الزمن على الانقسام الداخلي على الساحة الفلسطينية، تصاعدت التساؤلات عن مصير المصالحة وأفقها، بعدما طال الانقسام، وأصابت مفاعيله ونتائجه كل العملية الوطنية الفلسطينية، ومصالح الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، والخاضع للحصار الظالم والجائر منذ عشر سنوات.
جاء توقيع المصالحة الفلسطينية بين حركتي "حماس" و "فتح" في القاهرة في 12 الشهر الجاري والاختراق الحقيقي بفعل تطوراتٍ عدة. أولها سياسي له علاقة بالمرحلة التالية، مع بوادر الطرح الأميركي الجديد، والذي يَفّترض وحدة الطرف الفلسطيني المعني بعملية التفاوض. وثانيها دخول طرفٍ إقليمي بثقله الحقيقي هذه المرة، ونعني به مصر، وتوافر الإرادة عند أصحاب القرار فيها بأهمية إنجاز المصالحة من زاوية مصلحة الأمن القومي المصري على وجه التحديد. وثالثها الضغط المصري الحثيث لإنجاز المصالحة بسرعة أدّت إلى القفز على جملةٍ من التعقيداتِ السابقةِ. ورابعها أنَّ "حماس" لم يعُد بإمكانها تحمّل الأعباء الكبرى في القطاع، وهي أعباء إدارة المجتمع الفلسطيني وتوفير مستلزمات المعيشة الاقتصادية والخدماتية للناس، خصوصاً مع التردي المريع في جوانبِ الحياة المُختلفة، وانتشار التذمر بين الناس، الذين أُرهِقوا نتيجة تداعيات حالة الانقسام ونتائجها، والحصار الظالم القائم على القطاع. وخامسها تيقّن حركة "حماس" أن طريق المصالحة الوطنية خيار لا بد منه بعد حدوث المُتغيرات الجديدة في خريطة الإقليم.
يَظهَر من التحليلاتِ المنشورةِ على صفحاتِ المطبوعاتِ الإسرائيلية، غداة الإعلانِ عن اتفاقِ المصالحةِ بين "فتح" و "حماس"، أن الإسرائيليين على مُختلفِ مستوياتهم ينظرون إلى المصالحةِ الفلسطينيةِ بقلق. فقد قَدَمَ الانقسام لدولة الاحتلال خدمات كبيرة تمثّلت في إضعافِ الحالةِ الفلسطينيةِ، وفي زيادة الضغط الإسرائيلي عليها، وعودة حكومات إسرائيل للترويج لمقولة "فقدان الشريك الفلسطيني" وبالتالي استثمارِ الوقتِ لزيادةِ منسوب عملياتِ تهويد الأرض. وفي هذا الإطار فإن ثمة من يُشكك في إسرائيل بالدور المصري، وما إذا كانت مصر تسعى فعلاً إلى المصالحة الجدية الهادفة إلى إعادة تمتين الوضع الفلسطيني وتحضيره لصفقةٍ سياسيةٍ في إطارٍ حلٍ أميركي مرتقب تعدّ له إدارة الرئيس دونالد ترامب.
إلى ذلك، كان البيان الصادر عن مكتب بنيامين نتانياهو، بعيد الإعلان عن اتفاق المصالحة الفلسطينية، عاماً وفضفاضاً، حين أشار إلى أنَّ "إسرائيل ستدرس التطورات الميدانية وستعمل بما يتلاءم مع ذلك". وبالتالي كان موقفاً طرياً قياساً بتصريحات نتانياهو في خطابه في حفل يوبيل الاحتلال في الكتلة الاستيطانية "غوش عتصيون". حينذاك، قال نتانياهو: "لن نقبل مصالحة مزيفة، يتصالح فيها الفلسطينيون على حساب وجودنا".
إنَّ اللغة الطرية نسبياً في خطاب نتانياهو بعد الإعلان عن توقيع اتفاق المصالحة بين "فتح" و "حماس" تعود إلى ثلاثة أسباب: الأول يتعلق بمصر وتجنب محاولات الكسر معها. والثاني إدارة الرئيس دونالد ترامب، حيث منح البيت الأبيض دعماً وفي شكلٍ علني للخطواتِ المصريةِ لإنجازِ عمليةِ المصالحةِ، حيث انهالت تصريحات المبعوث الأميركي الخاص، جيسون غرينبلات، الذين أعلن خلال زيارة لإسرائيل، في 30 آب (أغسطس) 2017 "أن على السلطة الفلسطينية أن تستعيد السيطرة على القطاع من أيدي حركة حماس". وبالطبع فإن تصريحاتِ غرينبلات وأقواله لم تكن زلة لسان، وإنما هي جزء من سياسة أميركية. إذ أن جيسون غرينبلات سبق أن أطلق تصريحاتٍ مشابهةٍ خلال مؤتمر الدول المانحة للسلطة الفلسطينية، في شهر أيلول الماضي. والسبب الثالث محاولة نتانياهو استيعاب الواقع الراهن في ظل دخول عدةِ أطرافٍ إقليمية على ملف المصالحةِ الفلسطينيةِ مع وجودِ إرادةٍ دولية.
وبالنتيجة، نحن الآن أمام موقف إسرائيلي مُخادع، يُحاول تصوير الأمور وكأن إسرائيل لا تعارض تحقيق المصالحة الفلسطينية لكنها ترفض أن تدفع أثمانها، حيث لا تتوافق المصالحة مع مقاومة وبنية تحتية عسكرية فلسطينية عند أي طرفٍ فلسطيني، وحتى مقاومة مدنية سلمية، وبوجودٍ موقف ولو كان سياسياً يتعارض مع شروط الرباعية الدولية ومنها مسألة الاعتراف بوجود إسرائيل.
بعيداً عن كل التقديرات، إنَّ المصالحةِ الفلسطينيةِ المنشودة هي مصلحة وطنية فلسطينية. وقد رحبت جميع القوى والفصائل من دون استثناء بالتفاهمات الأخيرة بين "حماس" و "فتح"، والبدء بمشوارها المطلوب حتى إنجاز المصالحة في شكلٍ كامل. ويتوقع أن يتم عقد الاجتماع الشامل لكل القوى والفصائل للانطلاق نحو تنفيذ كامل بنود اتفاق العام 2011 الموقع في القاهرة.
اتفاق المصالحة الفلسطينية يعني إحداث التغيير المطلوب على طريق تجسيد وحدة الأرض والشعب ووحدة البرنامج النضالي الفلسطيني، فالمسألة ليست مسألة اقتسام نفوذ مع سلطة لا تزال تحت الاحتلال، بل الأمر يتعلق بوضع برنامج وطني توافقي جامع وموحّد لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، لتمكين الجميع من القيام بدورهم، على طريق العودة والاستقلال والحرية للشعب الفلسطيني، وإطلاق العملية الديموقراطية من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة جميع القوى والفصائل يكون على رأس أولوياتها الإعداد لانتخابات رئاسية وتشريعية في أقربِ وقتٍ ممكن، وانتخابات لمجلس وطني فلسطيني جديد على طريق إعادة بناء وتجديد مؤسسات منظمة التحرير ودخول بقية القوى لعضويتها، وتحديداً حركتي "حماس" و "الجهاد الإسلامي".
إنَّ كل ذلك يتطلب المرونة من جميع القوى الفلسطينية، والبدء بخطوات المصالحة على أرض الواقع لإعادة الوحدة وإرساء قواعد الشراكة السياسية على طريق البرنامج السياسي الوطني التوافقي، وتكريس الوحدة الوطنية في مواجهة الاستحقاقات التي تنتظر الحالة الوطنية الفلسطينية في الداخل والشتات.
علي بدوان
* كاتب فلسطيني