النجــــار..

بقلم: نبيل عودة

(حكاية عربية)

في عصر ما وفي سلطنة من سلطنات الارض التي لا عد لها ، عاش نجار بارع، كسب قوته وقوت أهله من صنعته التي تعلمها على ايدي امهر نجاري عصره واكثرهم مهنية وبراعة في التصميم والانتاج .

كان لشدة حبه لمهنته، كلما سمع عن نجار مشهور ، يتبعه ويخدمه حتى يتعلم منه افضل ما عنده من فنون النجارة والتصميم . يقال ، حسب ما جاء في السجلات القديمة ، ان صاحبنا النجار جمع خبرة العصور ، اكتسب مهارات لم يسبقه اليها احد من قبله  وفاق الجميع براعة واتقانا وفنا  مما جعل الناس

يضربون به المثل كنموذج للجودة والاتقان.

كان نجارنا الشاطر شديد الذكاء كما سجل عيون النظام المنتشرين في ارجاء السلطنة من فوق الارض ومن تحتها ، حتى يبقى المواطن سعيدا بنظامه . سجل العيون انه تطورت على يد النجار اشكال عدة من الكراسي ، صنع كراسي مع مساند للظهر ، بعد الفحص الامني واخضاع النماذج الاولى للفحص المختبري في اروقة السلطة ، ثم تجربتها على المسجونين من عامة الشعب ، صُرح للنجار بإنتاجها وتسويقها .. كذلك فاجأهم النجار بصناعة الكراسي بلا مساند للظهر وهذه لم يستغرق فحصها غير اشهر قليلة قبل التصريح بإنتاجها ، ما هي الا سنة او اقل ، حتى صنع كراسي مع مساند للظهر والذراعين .. مما احدث ضجة شعبية اقلقت النظام .. لكن للحقيقة لم يتبين للسلطة اي خلل يسمح بتسرب اعداء الوطن واعداء السلطان عبر مساند الكراسي للعبث بأمن النظام ..

النجار حير العيون المنتشرة فوق الأرض وتحتها، اقلق حاشية الملك بسرعة خاطره ،إذ لم تمض غير اسابيع من التصريح بإنتاج الكراسي ذوات مساند الظهر والذراعين حتى بدأ ينتج اشكالا لا تخطر على بال انس او جن في المملكة العظمى ، فغير في اشكال الكراسي واحجامها ، هذا المدور الظهر ، ذلك المدور المقعد ، آخر مستطيل ، أشكال مربعة الشكل  وأشكال نصف دائرية ... تفنن في زخرفتها ونقشها ، صنع الخزائن بأحجام عدة ، تفنن في اشكالها ، برع في تجميلها ، كأنها تحفة فنية وليست مجرد وسيلة لحفظ الثياب. صنع النجار الكنبات، الطاولات ومشابك الملابس. جن جنون الحكومة من هذه البدع الانتاجية .. فضاعفت العيون حوله ..

امتلأ ت الشوارع المحيطة ببيت النجار ومنجرته بمئات الباعة المتجولين، الزوار الاجانب وجلساء المطاعم مما نشط الحركة التجارية ، تحسن البيع والشراء وارتفعت مداخيل الناس .. بل ازداد عدد المواطنين الذين تركوا احيائهم الفقيرة واستقروا في اماكن قريبة من سكن النجار ومنزله ..

نزل الخير على جيران النجار فارتفت اسعار المنازل وايجاراتها ، لكن السر الذي لم يعرفه احد ان مئات الباعة المتجولين والزوار الاجانب وجلساء المطاعم ، ما هم الا عيون السلطة الساهرين على امن المواطن .. وان هذه النهضة الاقتصادية ما هي الا عملية تجسس كبرى ورقابة لا تفوت اي حركة او همسة تصدر عن النجار وزبائنه.

النظام العادل لم يجد الدليل على خيانة النجار .. لم يعرف ما الدافع لهذا النشاط غير المعروف سابقا في المملكة ..

هل مسه الشيطان؟

هل مسخه ابليس شيطانا على شكل انسان ؟

الاحتياط اذن واجب حتى لا تحدث المفاجئات غير المحسوبة سلفا .

كان لا بد من ابقاء العيون تراقب وتسجل .. أقيم مجلسا للأمن القومي ليبقى ساهرا على أمن المواطنين وحبهم واخلاصهم للسلطان.

دائرة التخطيط الاستراتيجي في المملكة لم تصل ، بعد بحثها ودراساتها الطويلة  وتبويب المعلومات الواصلة من الميدان مباشرة ، الى اي استنتاج حول نوايا شغب مبيتة لدى النجار، او اشكال متوقعة لاستغلال منتوجاته في اثارة الفتنة وتعريض أمن المواطنين للخطر .

لاحظ العيون ايضا انه اذا ما بنى احدهم بيتا وقصد النجار ، يحصل على ابواب تصبح قبلة للزائرين ، الذين يفدون بمئاتهم لرؤية الأبواب الرائعة، ليست مجرد ابواب تؤمن مداخل البيت وتفصل بين الليوان والغرف ، انما تحف فنية مزخرفة بالنقوش، الأقوال الحكيمة  وتسبيح الخالق ...

أصبح النجار من اشهر مواطني المملكة واكثرهم بعد الملك ورب العالمين ذكرا على الشفاه ، مما اثار حفيظة رئيس الشرطة .. فزرع المزيد من العيون يراقبون النجار ويتصيدون أخباره ويبلغون عن حركاته اثناء عمله  وشكل استعماله لعدة النجارة .

 اقيمت غرفة عمليات أمنية خاصة لدراسة المعلومات فور وصولها  وابقاء الموضوع مطروحا كخطر متوقع يجب الاحتياط الدائم له .. بل وكثيرا ما اقترح رئيس الشرطة نفي النجار، هدم المنجرة والتخلص من القلق الدائم على امن المواطنين والمملكة الشاسعة الاطراف ... فلعل وعسى الشيطان يهمس له ويهون له الامور ، فيطمع من قلة عقله بما هو ابعد من طاولة النجارة والمشغل ، ان يصبح مثلا رئيسا للشرطة ، او ربما وزيرا .. او ربما ، استغفر الله .. ان يصير السلطان نفسه ؟!

من يعلم ماذا يهمس الشيطان لابن آدم ؟!

مجلس الأمن القومي اعترض على طلب رئيس الشرطة، اكتفى بإقرار تشديد الرقابة ورفع اليقظة المخابراتية ، خوفا من أزمة دولية حول حقوق الانسان المضمونة بقانون الدولة بنص واضح لا يفسر على وجهين ..

صاحبنا النجار كان غارقا في صنعته ، مستلهما آيات الحسن والجمال ، ناشدا الروعة والجودة وكأن ما يجري حول منجرته لا يخصه!!

فاتني الاشارة الهامة ، الى ان افضل ما اشتهر به نجارنا ، هو صناعة الأسرة.  كان الناس ، اكثر الناس  في ذلك العصر القديم ، يفترشون الارض ، ينامون عليها ، الاكثرية المطلقة من الناس لم تفكر انه يمكن ان يوضع شيء ما بين الفرشة والارض  بحيث تتلين النومة  ويسرح النائم في طراوة الفراش  وتمتلئ نفسه بهجة  وسلوانا .

عندما سؤل رئيس الشرطة عن الفائدة الأمنية للوطن من استعمال الاسرة ، لم يجد جوابا يرضي السلطان وحاشيته .. لم يقبل احد من عظماء النظام ادعاء رئيس الشرطة بان الاسرة تهدف الجمع بين المتآمرين للتخطيط  ويجب منع انتاجها .. تساءل الوزير الاول ان كان قائد الشرطة يعتقد بان سرير السلطان ايضا بات لنفس الغرض ؟ وأضاف: اذا الغينا الاسرة اين ينام سلطاننا المفدى؟! فنزل الصمت على رئيس الشرطة وندم على تسرع لسانه!!

بدأ النجار ينتج الاسرة ، فقلده بقية النجارين ، لم يكن في ذلك الزمن مكتب سلطاني متخصص في تسجيل براءة الاختراعات ، لذا استغل النجارون الفوضى وقلدوا اسرة نجارنا .

الحق يقال ان النجار كان كريم الاخلاق ، سخيا ، لا يطمع في دنياه ويبني لآخرته .. كثيرا ما أرشد بنفسه النجارين على اصول الصنعة واساليبها وفنها ، لكن معرفة الفن شيء  وصنع وانتاج الفن شيء آخر .. لذا بقي نجارنا افضل الصناع في مهنته ، اشهرهم في انتاج الأسرة ، خاصة للعرسان الجدد ، كثيري الحركة ، كثيري النط  وكثيري الغلبة والشقلبة .

ازدادت شهرة نجارنا حتى لم يعد احد يعرف ان يحدد نطاقها ، مما زاد من قلق كبار الوزراء وكبار الاتباع ، جندوا المزيد من العيون من خريجي الجامعات واتبعوهم بالضباط المتقاعدين اصحاب الخبرات المؤكدة في قمع اعداء الوطن والمتطاولين على مصلحة الشعب وأمن النظام . جند ايضا رجال الدين لصد الافكار الهدامة التي قد يتجرأ النجار على التفوه بها ، لكنه ابن حرام مصفى لا تبدر منه بادرة لتنقض عليه جحافل القوى الامنية ، يتصرف بشكل مشروع ظاهريا ، مضللا جيوش المجندين لرقابته .

لم تسفر رقابته وعد حركاته وانفاسه وتفسير كلامه وصمته على امكانية اتهامه بتهديد المجتمع وامن السلطان والدولة ، ليتم التخلص منه مرة والى الابد وراء قضبان لا ينفذ منها حتى الجن الازرق.

انشغلت الدولة بجمع ما يتفوه به النجار ، ما يقال عنه بين الناس .. ومراقبة حركاته في عمله واعادة تمثيلها في دائرة التخطيط الاستراتيجي ، لفهم مراميها والاستعداد لما هو اسوأ .

 هل في حركاته اثناء انتاجه للكراسي والخزائن والأسرة ما يهدد امن الجمهور واخلاصهم للسلطان؟

وضع اهل بيته وكل من يمت اليه بصلة الصداقة او القرابة او حتى تبادل التحيات .. بأمر سلطاني تحت الرقابة. حتى مشترياته من الفواكه ، الخضار، اللحوم والطعام عموما ، وضعت تحت الفحص والتحاليل ، هناك معلومات غير مؤكدة سربها عين من العيون ، تقول ان الدولة تجمع زبالة النجار وما يتدفق من مجاريه ، ليفحص مخبريا ، لعل وعسى تنكشف حقيقته المتخفية .. كانت صعوبة في فحص ما يجمع وتحديد صفته ، بسبب تبدل ما يلتهمه النجار واهل بيته ، مما يثير النقاشات العاصفة في مختلف اجهزة العيون التي تكاثرت حتى اصبح لكل دستة مواطنين عينا يراقب ويسجل ..

كثرت حملات الاعتقال بين ضعاف النفوس المستهترين بالوطن ، والمتعاونين على اخفاء المعلومات التي تدين النجار بالتآمر والخيانة العظمى .. تراكمت المعلومات ورتبت حسب اهميتها الامنية ، احتلت كل الرفوف الفارغة في مكاتب الوزارات ، التي كان من المتوقع ان تخدم الدولة عقدين من السنين على الاقل حسب الخطة الخماسية الأخيرة ..

حقا طرحت افكارا كثيرة، بعضها يدعو لطرد النجار من المملكة ، نظرا لتكتمه الشديد وصعوبة فهم ما يفكر به .. واقترح الوزير الأول تشريع قانون يمنع التفكير ويعتبره ضمن المحظورات التي يعاقب عليها القانون بتهمة التكتم على اسرار خطيرة ضد الدولة وسلطانها وان يكون عقاب ذلك بالطرد من السلطنة.. لكن بعض الدول التي تسيطر على البحار ، ستجد بمثل هذه الخطوة عملا عدائيا لها .. وهي غير مستعدة على تحمل رجل بالغ الخطورة مثل النجار، ليعيش منفيا في بلادها. حتى الخبراء السياسيين والعسكريين والاقتصاديين ورجال الدين وضاربي المندل والنبلاء على اشكالهم ومراتبهم المتعددة ، من راكبي الخيل حتى راكبي الحمير ، حتى مستعملي المركوب الخشبي .. لم يصلوا الى نتيجة ترضي النظام ، فجرى الاستعانة بفتاحات القهوة ، اللواتي سربت اليهم الفناجين التي شرب منها النجار بعد ان اخرجت من منزله على ايدي امهر حرامية في النظام .. وظلوا حائرين في تأويل ما يجري وكشف الغامض في سيرة النجار  ان كان يفكر او يبيت امرا مريبا ؟؟ لا بد ان اضيف ما هو هام للغاية ، اذ دفعت هذه التجربة السلطان المحبوب لإصدار امر سلطاني ، بإنشاء علم جديد يسمى "نجارلوجيا" ، يبدأ بتدريسه لأصحاب احسن المعدلات العلمية من الطلاب في بداية الفصل الدراسي الجديد،  جرى اعداد كادر كبير من الخبراء الامنيين والمنجمين قراء المستقبل  لتدريس الموضوع  وان خريجي هذا القسم العلمي الجديد سيكون توظيفهم مضمون بلا وساطة وبراطيل .

صحيح ان العيون والشرطة بأجهزتها المتعددة القديمة والحديثة والاحدث وما بعد الحداثة وما بعد بعد .. اشاعت جوا من الرعب حول النجار واهل بيته ، لكن صاحبنا قوي الاعصاب ، كان يتصرف كأنه يعيش في عالم آخر ، غير مكترث ولا ملتفت لما يدور حوله، كأنه ليس هو المقصود بهذه الحملة التي كلفت صاحب الجلالة واهل المملكة اموالا طائلة حتى الآن ، لا تبدو بعد نهاية لهذا الصرف الهائل من اجل سلامة المواطن وحقه الحر في الدعاء لله والسلطان.

حتى الاموال التي تلقتها السلطنة من الاشقاء،  من الضرائب على سكان المملكة ، من التهريبات الشرعية لضمان قوة الدولة وعزتها  واستمرار اخلاص حاشية السلطان لسيدهم، لم تعد تفي بالصرف المتزايد .. وخلقت عجزا كبيرا في ميزان المدفوعات...

كان النجار يواصل صناعة التحف ، بات لقبه الجديد في الشارع صانع التحف يهز اركان الدولة والقابضين على مفاتيح الاموال والنظام . بل وبات يقلق حتى صغار العيون ويثير غيرتهم ، اذ يعتقدون انهم اولى بلقب يرفع من قيمتهم ويقدمهم في سلك النظام وامواله .

برودة اعصاب النجار واستمراره بعمله رغم ما يحيط به من عيون ومحللين ، حيرت الجميع وادخلتهم في متاهات من التأويلات .. الم يستوعب بعد ، هذا الحقير ، انه المقصود ؟! تساءل صاحب الشرطة .. وأضاف : كأن سمعان مش هون  مع انه هون ونص !!

جاء في السجلات المحفوظة حتى اليوم في ارشيفات النظام ، التي لسريتها لا يسمح بالاطلاع عليها الا بإذن سلطاني، ان بعض الغيورين على سلامة السلطان ورفعته ومداخيلهم من الوظائف المتعددة التي يشغلونها في الهرم الاداري للملكة ، نبهوا جلالته ان لقب صانع التحف ، توازي من حيث القيمة اللغوية والاسمية ، لقب صاحب الجلالة . قالوا: هذا دليل الخيانة وفساد الخلق والالحاد والفسق والكفر بالمسلمات التي ورثناها عن الاجداد .. وخروجا عن السراط المستقيم للملك والدولة والدين .  حثوا صاحب الجلالة ان يحفظ هيبة النظام .. برفع شأن المقربين الأوفياء واطلاق يدهم في خزائن الدولة وجيوب المواطنين .

جمع السلطان حوله كل الاقطاب الكبار ، قضوا اسبوعين يتدارسون المشكلة وايجاد حل لا يعرض الدولة للتشنيع في الخارج ، الامر الذي ينعكس بالتأكيد سلبا على السياحة ، بامتناع سكان الدول الاخرى من زيارة المملكة والانفاق فيها ، فتختل الميزانية وتنخفض اجور الوزراء والحاشية ورجال الدين وضاربي المندل والعسكريين .. الأهم عدم اعطاء الدول المعادية حجة للاعتداء والدولة مشغولة بأمنها الداخلي .. الاجهزة الامنية مشغولة بالرقابة والملاحقة والتجسس على النجار وتسجيل حركاته وفحص قمامته ومخلفاته في المجاري ..

انذارا للمغامرين الاعداء اعلن الناطق العسكري للسلطنة انه يحذر كل من تخول له نفسه الطماعة ويوهمه الشيطان ان اللقمة سائغة سهلة  بالعقاب الوخيم المدمر .

البلية ان صاحبنا النجار لا يبدو ان الامر يخصه او يتعلق به .. نقلت هذه المعلومة مباشرة لصاحب الجلالة من وزيره الاول ، حار في القرار الواجب اتخاذه واوجعه رأسه . اشار حكماء مجلسه عليه بالخروج الى رحلة صيد للراحة والتفكير  وهذا ما كان بالفعل ..

خرج على رأس حاشية ترفل بأجمل الملابس والسراويل وبنادق الصيد ، يحيط بجلالته اشرس الحراس .. وما هي الا ساعات حتى تحرك تفكير السلطان  وعرف من اين تؤكل الكتف ..

قرار السلطان لم ينشر على كل المرافقين من الحاشية ، خوفا من تسريب النبأ وافشال الخطة السلطانية .. ما عدا الوزير الاول وقائد الجيش وصاحب الشرطة ورؤساء اجهزة الرقابة والملاحقة والتسجيل والمخططين الاستراتيجيين وكبار رجال الدين لم يعرف بفحوى القرار احد .

 اثنى من علم بالقرار على عبقرية السلطان ورحابة صدره وخطته لإيجاد حل لهذه الازمة التي طالت وافقرت الوزراء والحاشية ..

كان قرار الملك ان يكلف النجار بصنع سرير له .. يقضي الامر بإرسال العساكر الى النجار بأمر سلطاني بصناعة السرير وجاء في الامر السامي : يبدأ بصنع السرير فورا وتحت المراقبة الشديدة المتواصلة ، حتى ينتهي من صنعه وكلف خبراء المملكة بفحص كل ما يستعمل بصناعة السرير السلطاني من مواد وآلات ، خوفا من ان تسول له نفسه الكافرة ان يضع ما يدنس طهارة السلطان ونسائه الشرعيات والممتلكات .. او يهدد امنه الشخصي عند القيلولة او النوم او الجماع .. وان يدفع ثمن السرير بخصم من ميزانية كل الوزارات بالتساوي ، بمبلغ يزيد عن ثمن اي سرير حتى من الانتاج الاجنبي .. حتى لا يقال ان السلطان يستغل سلطته للحصول على مبتغاه مجانا ، ليعلم الوزراء  ويعلنوا ذلك دائما في احاديثهم ، ان ملكهم كريم جدا ، رحوم جدا ، شفوق جدا جدا  وانه لا يمل من ارهاق نفسه في سبيل اكثار السكان من النوع الملكي الراقي ، ليجد الورثاء في تحمل هم السلطنة ومشاغلها ومتاعبها المرهقة .. فاضحكوا وانبسطوا يا سكان السلطنة على ما وهبكم اياه العلي القدير .

صحيح ان النجار ارهقه العمل بإنتاج سرير سلطاني ، خاصة وانهم لم يعطوه وقتا للراحة او للتنفس .. لكن هذا لا يهم ، كان راضيا سعيدا بعمله ، يهمه ان يكسب رضا السلطان واستحسانه لما يصنع. اجهد نفسه وذكائه في تصميم السرير وانتاجه كتحفة فنية لم يسبق لاحد ان رأى مثلها . حفر على مقدمة السرير صورة مكبرة لوجه حبيب الشعب ، حبيب الوطن وحارسه ، السلطان وريث سلالة السلاطين ، لولا المعلومات التي واصل العيون نقلها عن النجار، لقربه السلطان اليه وجعله نجار السلطنة  وربما انشأ له وزارة لمهنة النجارة .. لم يستطع ان يفهم السلطان ما الذي يدفع نجارا واطئا مثل هذا ، للعمل ضده وضد سلطنته العظيمة وهو يعلم ان الذراع التي تتطاول على الذات السلطانية تقطع  وتطول حتى الهاربين الى آخر الدنيا .. تفو على الشيطان .. تفو على الوسواس الخناس ، مورط الناس .. مثير المشاكل .. تفو مرة ومثنى وثلاث ...

سعد النجار كثيرا بالمبلغ الضخم الذي قبضه، احتار ما يفعل به، اشترى عدة نجارة جديدة، فرش بيته بأثاث جديد، وزع قسما من المال على الفقراء .. قرر ان يستغل المبلغ المتبقي بجولة في دولة فتياتها شقراوات ، فهو الأسمر يود ان يمتع انظاره ،على آخر العمر.. بالشقراوات  وان يسمح لنفسه بشم الهواء والراحة بعد اجهاد وتعب . لم ينتبه النجار كعادته الى ان ما فعله ويخطط له قد اثار بقوة ومن جديد  العيون التي تراقبه .

العدة الجديدة التي اشتراها سجلت عند كبير رؤساء الشرطة بانها تخطيط لمؤامرة، فرش بيته  لتخبئة زمرة المتآمرين، توزيع المال على الفقراء  لشراء الذمم ليكسبها الى جانب المؤامرة ... ويزور بلاد الخارج ..؟ أكيد لنقل المعلومات لأعداء الوطن والسلطان  وحبك التآمر مع المنشقين والقوى الاجنبية .

اعلنت حالة الطوارئ من جديد .. تدفقت العيون الى الشوارع تعد حتى انفاس الناس .. تحرك الجيش هذه المرة في استعراض قوة لم يعهدها احد من قبل مارا من امام مشغل النجارة ، فوقف النجار يحييهم  وكأنه بريء من دم الصديق .

قال الجنرالات المتقاعدين يمثل علينا ابن الزانية وقال الوزير الاول : يتظاهر بالغباء. قدرت دائرة التخطيط الاستراتيجي: ان قدرته على الصمت وضبط الاعصاب لا تقل عن مهارته بصنعته. انعقد مجلس الأمن القومي بجلسة طارئة غير محددة بالوقت ... في أفخر فندق في السلطنة .

يوم سافر النجار لتحقيق امنية حياته ، تمنوا ان تكون رحلته سفر في اتجاه واحد .. رحلة بلا عودة ، علهم يتخلصون مرة والى الابد من هذا الخطير القدير .

أبحرت الباخرة من ميناء المملكة وعلى متنها النجار وعدد كبير من العيون ، ورست بعد اسبوعين في ميناء حتى الرجال فيه شقر  مما اثار التعجب في نفس النجار وخاطب نفسه : رجال شقر ؟؟ ماذا ستقول ام حسن ؟؟ اكيد ستظن اني اخرف.. نساء شقراوات شاهدناهم في حدائق القصر .. اما رجال وشقر؟!.. رحمتك يا رب .. اكيد الدنيا في آخر وقت .

سار النجار تراقبه العيون مراقبة شديدة  في شوارع المدينة الغريبة التي وصلها ، منذهل من كل ما تراه عيناه ، حتى اعياه السير ، شد ما اقلقته اخلاق الناس ، يطرح عليهم السلام فلا يردون ولا يلتفتون .. بعضهم تأملوه بنظرات غريبة .. مما اشعره بالغضب  ولكنه غريب في بلادهم فآثر الصمت على مضض .

أعياه التعب عند مغيب الشمس ولم يكن قد دخل شيء في حلقه منذ الصبح. التفت حوله يبحث عن بائع متجول فلم يجد ، نظر عبر احدى النوافذ المضاءة، فشاهد اناسا يجلسون الى طاولات مكسوة بقماش أحمر باهر اللون  يضفي على المكان جوا اخاذا ، يأكلون اشياء لم يستطع تمييزها ، وضعت في اوان امام كل واحد منهم  وليس في اناء مشترك .. يحتسون شرابا احمر اللون .. يستعملون السكاكين لتقطيع ما في الاواني .. كلهم مسلحون بالسكاكين ، الا هو غادر بلاده بلا سكين .. ترى هل يعطوه سكينا اذا دخل؟، كيف يسمى هذا السكين بلغتهم التي لا يعرف منها حرفا؟

الجوع القاتل جعلة يتوكل ويدفع الباب داخلا المكان الفسيح المليء بالطاولات وجلسائها ، استقبله احدهم وهو يرطن ويبتسم ، القى علية اطيب السلامات والتحيات ، سأله عن احواله واحوال ام الاولاد والاولاد ، رد عليه برطانة وبكلمات  تشبه تغريد العصافير ..

ترى كيف يفهموا على بعض؟

لوهلة شعر بالندم ، استعوذ  بالله وتمنى لو بقي في منجرته . . وبدأت تشتد عليه الحيرة وهو في منتصف القاعة الرحبة لا يدري ما يفعل .. حين وجد نفسه فجأة امام قد ممشوق ، صدر طافح ممتلئ مكشوف حتى النصف ، يترك بلا مقدمات وبلا تفكير رغبة مجنونة بكشف ما خفي .. رفع رأسه قليلا ليرى اي جن الم به وتأبط ذراعه ، كاد يصعق امام العينين الزرقاوين الواسعتين الجذلتين  والشفتين المليئتين الملونتين بطلاء احمر . أذهلته البشرة البيضاء الناعمة الحريرية الملمس  ورائحة العطر الأخاذة ،فالتبس عليه الامر : هل هي الجنة ؟ هل يكون قد مات .. وكرجل صالح لم يؤذ احدا او يتعدى على احد  ارسله الله الى الجنة ؟

دغدغته ضحكاتها العذبة ، قادته واجلسته الى مقعد وجلست قبالته كأنها تعرفه منذ ولدته امه . انطلقت ترطن بلغة العصافير التي لا يفهمها .. صوتها يخترق احاسيسه مثيرا ارتعاشات لم يعهدها منذ ليلة زفافة على ام حسن . هل يعرف حقا ما هو به وماذا عليه ان يفعل حتى لا يقع بالمحظور ؟!

العيون التي تراقبه اصيبوا بالدهشة ، لكنهم حافظوا على رباطة جأشهم وسجلوا تفاصيل هذا اللقاء مع عميلة الاستعمار الاجنبي الذي يجري بالعلن . ركض احدهم الى السفينة لنقل المعلومات الاولية حتى تصل البلاد بلا تعويق . بدأ النجار يضرب اخماسا في اسداس ، متخبطا لا يعرف ما يلم به ، مأسورا مذهولا من هذا الجمال الناطق والفتنة التي شلت كل تفكيره ، مستسلما بلا ارادة لهذه الدغدغة المجنونة التي اغرقته بسحر لا فكاك منه .

أكلته بعينيها وأكلها بعينيه . رطن بلغته ورطنت بلغتها. لم تفهمه ولم يفهمها . عبثا حاول العيون تفسير هذا المشهد السريالي للخيانة العظمى التي ترتكب على مشهد من الناس. ضحكت بمتعة وبريق عينيها يشل قدرته على التفكير بما هو مسموح شرعا وما هو ممنوع. قال العين الكبير لمساعده: هذه اول اشارات الاتفاق على التآمر. تمايلت امامه بغنج نادر .. رسمت على الطاولة شكل قنينة. لم يسعفه عقله المسطول بالوجد والشبق على فهم ما ترمي اليه ، رغم انه نجار بارع يصمم ويرسم ابدع الاثاث .. قلق شديد اصاب العيون لرؤية رسمة القنينة على الطاولة ، ايقنوا ان السم دس بقناني المياه المستوردة خصيصا لجلالته ، اطلقوا بلا تمهل عينا آخر للباخرة ليرسل انذارا لا يقبل التأجيل بعدم تقديم المياه المستوردة لجلالته حرصا على سلامة الوطن والمواطنين .

النجار قطع حيرته بهز راسه ففهمت بنت ابليس انه يوافقها على ما رسمته فاتسعت ابتسامتها وشبكت اصابعها بأصابعه في عناق جعله لا يعرف ان كان حيا ام ميتا . يجلس ام يطير محلقا في الفضاء .. ماذا ستقول ام حسن ؟ .. هل ظلت في دماغه قدرة للتفكير بأم حسن ؟

قال العين الكبير مذهولا: باع النجار نفسه نهائيا لأعداء الوطن. لم تتأخر الملعونة التي سحرته فأومأت الى شاب يرطن بلغتها ان يقترب واسرت له بضع كلمات ، ابتسم لها مما اثار الدم في عروق النجار  وود لو يقطع رقبة هذا المعتدي على خصوصياته ..قال عين لرئيسه : اظن ان المؤامرة يشترك فيها اكثر من استعمار واحد .. ربما هي مؤامرة عالمية ؟ خبط الرئيس اخماسا بأسداس  شاعرا ان امن السلطان والوطن يثقل كاهليه وعليه ان يكون بقدر المسؤولية التي انيطت به ، ارسل عين آخر ليوصل آخر التفاصيل المسجلة حتى يلحق الباخرة قبل خروجها من الميناء .

عاد الشاب الوقح بقنينة فيها  مشروب احمر ، مذاقة يزيد المرء حماسة وانبساطا . هل هي من المحرمات؟  هل يكون الفرح من المحرمات؟ ازال هذا التفكير العقيم من دماغه الغارق بسحر العيون البراقة والنهدين المتوثبين ..  قال العين الكبير لنفسه : انه يشرب سموم التمرد . اسر له مساعده : سيادتك بعد اذنك ، الا توافقني ان النجار يشرب المحرمات ويزني ؟ زجره رئيسه على قلة عقله : ما يجري اتمام لتفاصيل المؤامرة .. لم نصل هنا لنعيد النجار الى السراط المستقيم .. أو لنراقب حسن اخلاقه .. نحن من دوائر المخابرات ومهامنا لا علاقة لها بالخمر والزنى .. مهمتنا صيانة امن مواطني السلطنة وسلطانها العظيم من المؤامرات .. اذا انتهت المؤامرات تبطل الضرورة لنا ونحال الى التقاعد ، فلا تتفوه بكلام مجنون !!

شرب النجار مستمتعا وشربت ساحرته متمايلة والسعادة ترتسم على محياها الصبوح، تخاطبه بعينيها خطاب مليء بالوجد والصبابة .. تحرر من رهبته بعد الكأس الثانية  وتحررت من آخر تردد في نفسها .

هل تكون هذه هي الخمر التي وعد الله بها المؤمنين يوم يلجون الجنة؟ ارتفعت معنوياته وتسامت روحه ..هل من جنة اعظم مما هو به ؟ شرب وشربت ، رطن بلهفة ورطنت بعشق هيج كل اطرافه .. لمست يده بأطراف اصابعها فدبت الرعدة الكهربائية في كل جسمه ..تجرا ومد اصابعه فالتقت بيدها في منتصف الطريق ، تمالك نفسه بصعوبة ، ضغط على اصابعها وضغطت على اصابعه بالمثل . رطن بلغته بكلمات غزل ورطنت بلغتها وعيناها تضحكان وتشعان رغبة مجنونة تسكره. تمايل من رغبته المجنونة وتمايلت من عفرتتها. شرب وشربت . ارادها وارادته .العيون تتعلق ببعض . يتحدث وتتحدث . لا يفهمها ولا تفهمه. مرة اخرى رسمت له صورة قنينة ، اثارت الرعب في وسط العيون المراقبة وعبثا حاولوا تأويل الهدف من رسمها للقنينة الثانية . هل يكون الجواسيس الاجانب قد وصلوا لمصادر المياه في المملكة ؟ يا لهول ما ينكشف امامهم ... احضر الشاب الوقح قنينة اخرى وهو يبتسم بوقاحة لصاحبته .. فكاد الشرر يطير من عينية ، لولا يقينه انه في بلاد غريبة لشوه ابتسامته ووجهه كله . زجر غضبه وسرعان ما عاد لسحر الشهوة التي تتفجر داخله .. ربي يسر ولا تعسر .. وهبنا من لدنك صبرا وقوة ..

شرب وشربت . طابت نفسه وطابت نفسها. تحدثت اليه برطانة لم يفهمها وتحدث اليها بفصحى تكاد تخلو من الاخطاء فلم تفهمه .. بسط في لغته وكسرها لتفهمه فلم يتغير الحال. سجل العيون انه يجري حديث حميم من الصعب معرفة تفاصيله ، لكن المؤامرة واضحة جلية على محيا النجار والعميلة الجيمس بوندية للاستعمار  وان الاتفاق بينهما يبدو واضحا جليا وتاما.

تبادلا اللمس وتغازلا بأطراف الاصابع. رمانتاها تكادان تقفزان نحوه .. مد يده فما مانعت رغم امتلاء المكان بالناس .. ماذا لو رأت ام حسن ما يجري بين بعلها وهذه الشقراء شبه العارية ؟ رئيس العيون ايقن ان في الصدر رسائل سرية يجري تسليمها ، ربما عملات صعبة لتجنيد العملاء والخونة ضد الوطن والسلطان . قال لنفسه انه يجب التفكير بخطة مستعجلة لمصادرة الاموال من النجار قبل العودة بها واستعمالها في ما يبيت من خطط ، بالتأكيد سيعترف النظام بفضله ويهبه الملك ما يستحقه مقابل المهمة الوطنية الخطيرة التي اوليت له ونفذها بالتمام والكمال .

ارتفعت حرارته وارتفعت حرارتها . شرب وشربت . تعانقت الانفاس الولهانة العاشقة التي تنبض بحرارة الوجد والرغبة.. يتكلم وتتكلم لا تفهمنه ولا يفهمها، ترسم له صورة قنينة اخرى على الطاولة ، فيكتمل وجدانه ويضحك بحرية معبرا عن فهم مرادها اخيرا .. يشرد وراء رغبته المجنونة  ويشرد العيون وراء تفاصيل الخطر القومي الطارئ الذي يجري امامهم على المكشوف . بنت الشيطان سطلته . هذه ارادة الخالق . هذا قدره المكتوب. تمايل رأسه المثقل برغباته المتفجرة . قبض على فخذها شبه العاري بقوة ووله لم يعرفه منذ دخل على ام حسن . انتشرت ابتسامتها الجذلى فازداد سعاره وغب من الخمر علها تطفئ غليله الملتهب . تكلم وتكلمت . شرب وشربت . تعانقت الاصابع وتوحدت في ضمة طويلة .. انبهرت نظرات العيون ودقت نواقيس الخطر في قلوبهم . غمرته سعادة لم يعهدها حتى في ليلة دخلته . ازداد توهج لحظها وعينيها. رطن بكلماته ورطنت بكلماتها . لم تفهم ولم يفهم ..اقتربت منه بأنفاسها اللاهبة وطبعت قبلة فوق شفتيه فتفجر الشرر . أغمض عينيه ليستعيد توازنه او بعض يقينه. رائحة العطر لا تقل روعة عن جمالها .. رائحة ام حسن مثل التبن المنقوع . شرب وشربت والرقابة حوله متوترة متيقظة لتفاصيل المؤامرة على الوطن والشعب. اقتربت بكرسيها حتى لامسته بكتفيها فالتهبت احاسيسه وتتضايق من ضيق سرواله .. ركنت رأسها على كتفه ورسمت له .. يا للهول: صورة سرير !!

اقسم بالله صورة سرير. نظر حوله غير مصدق . كاد السكر يطير من دماغه والرعب دب في العيون، باتوا على يقين ان السر يكمن في سرير السلطان الذي صنعه النجار .. . هذا خطر غير متوقع، ضربة لم تحسب .. قال رئيس العيون منزعجا وحائرا في طريقة انقاذ الوطن والسلطان والشعب من هذه الخيانة .

الرغبة المجنونة تضرب في كل اطراف النجار ، رسمت له صورة سرير ؟

من يصدق ذلك .. لم يعرفها من قبل ولم تعرفه .. التقاها منذ وقت قصير .. لا يصدق ما تراه عيناه؟ صورة سرير ؟!

اصابه شطط واختلط المبتدأ والخبر .

رسمت له صورة سرير .. بنت الشيطان ، جمالها ساحر والرغبة بها وصلت قمتها .. هي تريده كما يريدها .. من اين لها هذا الذكاء الخارق وهذه الفراسة المذهلة ؟ بنت الشيطان .. فتح عينية المخبولتين من الخمرة غير مصدق ما يجري معه . رسمت له صورة سرير .. بالتأكيد صورة سرير !

أصابته الحيرة: كيف عرفت انه يشتغل نجارا ؟!

بقلم/ نبيــل عــودة