يبدو أنها مصلحةٌ مشتركة ومنافعٌ متبادلة، هي تلك التي أدت إلى الهدوء السائد على جبهات القطاع وحدوده مع الكيان الصهيوني، فلا قتال ولا مناوشات، ولا مواجهاتٍ ولا اشتباكات، ولا اجتياحاتٍ ولا اعتداءاتٍ، ولا صواريخ تصيب المستوطنات ولا غيرها تهدد سلامة المستوطنين، وكأنها تفاهمات بينية واتفاقياتٌ رسمية بين خصمين وندين، وعدوين متحاربين، رغم أنها ليست بهذا المعنى أبداً، إلا أنها تقود إلى نفس النتيجة، وتؤدي ذات الغرض، إذ لا عملياتٍ عسكرية إسرائيلية موجعة أو مستفزة، ولا عملياتٍ عسكرية انتقامية ثأرية أو ردعية تقوم بها المقاومة الفلسطينية، إذ يلتزم الطرفان الصمت، ويحافظان على الهدوء، ويحرصان على تبريد الجبهة وعدم تسخينها، بل ونزع فتائل التفجير وتخفيف أسباب التوتر ومعالجة عوامل الانفجار.
لكن هذا الهدوء السائد على مختلف الجبهات بين قطاع غزة والكيان الصهيوني، لا يعني أن الطرفين قد اتفقا رسمياً وتعاهدا عملياً على عدم القيام بأي أعمالٍ حربيةٍ من شأنها توتير الأجواء، ودفع الطرفين إلى مواجهةٍ عسكريةٍ وحربٍ دمويةٍ رابعةٍ جديدةٍ، قد لا يقويان معاً على تحمل نتائجها، أو ضبط خواتمها والتعامل مع تداعياتها ومضاعفاتها، رغم أن هذه قد تكون رغبتهما، ولهذا تكثر الرسائل المتبادلة بينهما، سواء بصورةٍ مباشرةٍ أو عبر وسطاء، أو من خلال التصريحات والمواقف، أو من خلال التهديد بردٍ فعلٍ قاسي وموجع في حال اختراق أحد الطرفين للهدنة القائمة، وحالة الهدوء السائدة، وكانت كلها تدعو إلى الهدوء وضبط النفس، والحكمة والعقلانية في التفكير، وعدم الانجرار إلى ردات الفعل العنيفة غير المدروسة.
كما قد لا يكون الكيان الصهيوني في عجلةٍ من أمره لشنِ حربٍ جديدةٍ على قطاع غزة، يعيد فيها ترتيب أوراق القوة فيه، ويمكن بالقوة السلطة الفلسطينية من استعادة سلطتها ونفوذها، وبسط سيادتها المفقودة على القطاع، رغم أن قيادته العسكرية تتطلع إلى حربٍ جديدةٍ تعيد فيها الهيبة إلى جيشها، وتحسن صورته التي اهتزت، وتعالج العيوب الكثيرة التي فضحته وأثرت على أدائه، حيث أن قادته العسكريين والسياسيين يهددون دائماً بتدمير لبنان وحرق غزة، وأنهم سيستخدمون في أي حربٍ قادمةٍ أسلحةً جديدةً، وسيوظفون كل قدراتهم العسكرية، وسيعمدون إلى كثافة النيران وغزارة القصف، ودقة الإصابة، ليتمكنوا من حسم الحرب كلياً وبوضوحٍ لصالحهم، بما لا يدع مجالاً للمقاومة لادعاء النصر وإنكار الهزيمة.
لكنه في الوقت نفسه قد لا يكون قادراً على القيام بمغامرةٍ جديدةٍ، قد تزيد في إحراجه وتعمق مشكلته القديمة التي ما زال يعاني منها ويشكو من مرارتها، وبدلاً من محاولة خروجه منها فإن حربه الجديدة قد تتسبب له في أزمةٍ داخليةٍ عنيفةٍ، تمس الجيش والشعب معاً، وتكون لها نتائج بنيوية ووجودية سلبية عليه، فنتيجة الحرب القادمة غير مضمونة، ولن يكون من السهل عليه حسمها في الميدان، بل إن أركان الحكومة الإسرائيلية وقادة أركان جيشهم المعادي، يعتقدون أن المقاومة الفلسطينية في الجنوب، واللبنانية في الشمال قد طورت نفسها، وزادت من مستوى تسليحها، فضلاً عن امتلاكها لصواريخ بعيدة المدى دقيقة الإصابة وشديدة التدمير وقوية التفجير، وهو يشكو دائماً أنه يجهل ما يملكه الخصم، ويخاف من المفاجئات التي قد يكون لها أبلغ الأثر في إحداث صدمةٍ نفسيةٍ للشعب وهزيمةٍ عسكرية للجيش.
أما المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، المستفيدة كثيراً من حالة الهدوء القائمة، وتراجع مستوى دق طبول الحرب في المنطقة، فإنها في الوقت الذي تقول فيه أنها قادرة على صد العدو ومنع تغوله، وأن لديها من الأسلحة الجديدة والفعالة ما يمكنها من إلحاق أكبر الضرر وأشد خسائر في صفوف جيش العدو، فإنها تستغل فترات الهدوء وانخفاض مستوى العنف في التدريب والتأهيل، واكتساب الخبرات وبناء الطاقات، وتطوير العمل واختبار الأسلحة والصواريخ، وغير ذلك مما يلزم البنية التحتية لمجموعات المقاومة.
قد تكون بعض الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة والمؤثرة معنية بهذا الهدوء وحريصة عليه، وتلعب من مواقعها النافذة أدواراً مباشرة في تبريد الجبهات، وفي سحب فتائل الانفجار الساخنة، وترسل من وقتٍ لآخر مبعوثين من طرفها، ورسائل تطمينٍ وتلطيفٍ لضمان عدم انفجار الأوضاع، رغم أن أسباب الانفجار وعوامله متوفرة دائماً، ولكنهم لا يريدون حرباً جديدةً في المنطقة قد تحرجهم، وقد تجرهم للتدخل بطريقةٍ قد تلحق بهم وبمصالحهم خطراً، كما أن أي حربٍ فلسطينيةٍ إسرائيليةٍ جديدةٍ في هذه المرحلة، قد تؤثر على مسار الأحداث في مناطق أخرى مجاورة، التي قد تستفيد من الحرب ولا تضرها.
يعلن مسؤولون في الحكومة الإسرائيلية أنهم يتعرضون لضغوطٍ من بعض الأنظمة العربية، وأحياناً من السلطة الفلسطينية، لحسم الأوضاع في قطاع غزة، وإنهاء حالة حركة حماس فيه، وتفكيك تنظيمها ونزع سلاحها، وإقصائها كلياً عن مراكز القوة والتأثير في غزة، وقد صرح بهذا أكثر من مرةٍ وزيرُ حرب العدو أفيغودور ليبرمان، الذي لا يخفي إحساسه بأن السلطة الفلسطينية تريد محاربة حماس بـــ"جيش الدفاع الإسرائيلي"، وأن رئيس السلطة الفلسطينية يدفع حكومته للقيام بعمليةٍ عسكريةٍ واسعة النطاق في قطاع غزة، تكون قادرة على إعادة تشكيل المنطقة بصورة نهائية، ورسم خرائط جديدة للسلطة الفلسطينية ودول الجوار والمحيط.
يبدو أن الطرفين يعيان المرحلة جيداً، ويحسنان تقدير قوة بعضهما، ويدركان ميزان القوى الحقيقية، ويعرفان اتجاهات الحرب إلى أين، ومآلها في حال اندلعت، ومدى وحجم آثارها على جمهورهما في حال استمرت، ويعرفان قدرة شعبيهما على الصمد وتحمل آثار ونتائج وتداعيات الحرب، ويفهمان الرسائل المتبادلة، ويصغيان إلى النصائح والتحذيرات الموجهة، لهذا فإن هدوء الجبهات قد يستمر، وحالة السكون قد تطول، ولكن هذا لا يعني أن العدو قد لا يغدر، وأنه لن ينقلب فجأة، ولن يطلق حمم قذائفه ورشقات صواريخه على قطاع غزة، فتجاربنا معه تؤكد غدره، وتظهر طبيعته، ولهذا فإن المقاومة تتربص وتتهيأ، وتستعد وتتجهز، وتبقي يدها الزناد، انتظاراً للحظةٍ قد لا تريدها، ولا تتمنى وقوعها حرصاً على شعبها، ولكنها ستكون مكرهةً عليها للرد والصد، والدفاع والحماية، وأيضاً للثأر والانتقام.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 29/10/2017
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]