وعـــد بلفور وخزعبلات المالكي

بقلم: زهير الشاعر

خرجت علينا الصحف العربية بخبر مفاده أن بلفور يعود للتاريخ من جديد ويفتح ملف بريطانيا ، وفي الحقيقة عندما قرأت مثل هذه العناوين كدت أن أسقط على الأرض مغشيا علىً خشية، على المملكة المتحدة مما سيحل عليها من لعنات المالكي الذي بشر بذلك!، بعد أن تضطر لدفع الثمن القانوني!، بعد مرور مائة عام على الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطاني الأسبق آرثر جيمس بلفور، في 2 نوفمبر 1917، إلى اللورد (اليهودي) ليونيل وولتر دي روتشيلد، والتي أشار فيها إلى أن حكومته ستبذل غاية جهدها لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، والتي تسببت بتغيير العالم حسب وصف الغارديان البريطانية.

وكوني أعرف القليل، من خلال سذاجتي كفلسطيني عربي ، تتحكم بي عواطفي وأنساق وراء الكمات التي تنسيني مع تجددها ما تحمله معها من سمومٍ مظللة، أدركها دائماً كفلسطيني عربي بعد فوات الأوان، فتأملت في هذا السياق كلمات وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي ، الذي ضخ من خلالها الأمل في الأوهام الميتة، وذلك من خلال تصريحاته الملغومة ، التي كان مفادها ، بأنه سيعمل على تحريك دعوى ضد بريطانيا ، في الوقت الذي يعلم فيه، هو قبل غيره بأن الحقيقة تقول غير ذلك، وبأنه لا يجرؤ ولن يجرؤ على تحريك مثل هذه الدعوى، على الأقل في الوقت الحالي ، أما ما يستطيع فعله فقط هو التلاعب بالألفاظ والكلمات التي تتراقص عليها عواطف الراي العام ، بدون التدقيق فيما تحمله من أكاذيب وتظليل.

كيف لا ، والتاريخ القريب يتحدث عن الكثير في سلوكيات المالكي اللفظية التي يجيدها بامتياز في سياق عملية تخدير وتظليل للراي العام، لحين تمرير ما هو أخطر مما تحمله تصريحاته بين الحين والآخر.

فعلى سبيل المثال تحدث المالكي عن محكمة الجنايات الدولية وبأنه سيفعل ويعمل ويقوم ويحرك ويجلب واستخدم الكثير من المفردات التي تصلح لفيلم اكشن بات مفضوحاً ، لأن النهاية دائماً كانت تأتي بنتيجة صفر كبير ، ويتضح للرأي العام بأنها كانت تجيئ ضمن حلقات دارما مسلية في وقتها بدون ان تحمل معها نتائج أو منطق، وفقط من يستفيد من طرح مثل هذه الروايات، هو بطلها وأعضاء فرقة التمثيل فيها وبالتأكيد صاحب الحق الحصري في إخراجها!، الذي يدرك أكثر من غيره ضروريات ما يقوم به الممثلين والكومبارس كل حسب الدور المنوط بهم.

كيف لا ، وهم من تحدثوا في بداية حديثهم عن وعد بلفور وعن نيتهم محاكمة بريطانيا وطلب الاعتذار منها ، عن أنهم سيحاكمونها في محكمة الجنايات الدولية، فقلنا لهم في ذلك الوقت ، هذا يدل على جهلكم بالقانون الدولي وباختصاص هذه المحكمة ، قالوا سنحاكمها أمام محكمة العدل الدولية ، فقلنا لهم أيضاً، هذا يدل على تخبطكم وعدم جديتكم ، قالوا سنحاكمها أمام المحاكم البريطانية ، قلنا لهم، لربما أنكم تظنون بأنكم قوة خارقة تستطيعون أن تفعلوا مالا يستطيع غيركم فعله!، ومع ذلك يبدو بأنكم تجيدون دوراً يحمل معه ما بعده، وأنتم كلفتم قبل عام تقريباً مكتبين محاماة بدون أن يكون كل واحد منهما ، يعرف بأنه كان مكلف من طرفكم، بمتابعة هذه القضية ، ثم عدتم من جديد لتقولوا بأنكم ستحركون دعوى ضد بريطانيا ، ولكنكم لم تحددوا أين وكيف سيكون ذلك، ولكن يبدو بأنها ستكون في هذه المرة أمام المحاكم البريطانية التي سينصاع قضاتها صاغرين لطلباتكم خشية على بلادهم من غضبكم!.

الطريف أن الردود الأولية على خزعبلات المالكي ، جاءت في سياقات عدة، ومنها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، طالب من لندن ، الفلسطينيين بتقبل وجود إسرائيل كوطن للشعب اليهودي القومي، في نفس الوقت الذي أعلنت فيه بريطانيا العظمي وهي ترتعش من تهديدات المالكي بتحريك دعوة ضدها، بأنها ستحتفل بكل فخر بوعــد بلفور ، لا بل إن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، قالت يوم الخميس 2 نوفمبر ، انها “قطعا لن” تعتذر على وعد بلفور ، الذي مهد الطريق لقيام دولة إسرائيل “الاستثنائية جداً، كما أشادت بالدولة اليهودية، ووصفتها بأنها "رمز للانفتاح، كديمقراطية مزدهرة!".

كما أن الأكثر طرافة هو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعث بمقال بهذه المناسبة نشر في الغارديان البريطانية أيضاً، حيث تحدث فيه عن وعد بلفور ووصفه بأنه مسؤول عن اطلاق قرن من الاحداث التراجيدية للفلسطينيين، وهذا أمر لا خلاف عليه، ولكنها تجاهل بذلك بأن فترة حكمه الديكتاتورية ، تسببت لأجيال متلاحقة من الفلسطينيين بآلام وأوجاع لا تقل ابداً في شراستها وقذارتها عن ما تسبب به هذا الوعد المشؤوم للشعب الفلسطيني ، الذي كانت من نتائجه أنه جلب منظومة فلسطينية بائسة وفاسدة وغير متوازنة في الأخلاق والعمل، هو على رأسها الآن ، تعمل من أجل تجسيد كامل ، هدف له هذا الوعد منذ البداية، وما يحمله ذلك من مخاطر حقيقية على عملية السلام وفكرة التعايش بين شعوب المنطقة برمتها.

لربما كلامي هذا صادم للبعض أو يحمل معه حقيقة قاسية ، لأنه لم يجيئ في سياق مجاملاتٍ رخيصة أو سياسة نفاق وضيعة ، أو حاجة هادفة لمكاسب شخصية بحتة ، لذلك أقول بوضوح، لا المالكي يستطيع تحريك دعوى ضد بريطانيا ، ولا بريطانيا تعيش حالة رعب من تصريحاته الكاذبة والمظللة هذه ، ولا الأمر الواقع سيتغير ، ولا يمكن التقليل من شأن ما طلب به نتنياهو لأنه يبدو هو الهدف المنشود الذي بات هناك رغبة جامعة بين أطراف متعددة بتحقيقه قريباً!.

أخيراً لا أجد ضرورة لعزاء في سذاجتي كفلسطيني عربي ولا غرابة في أن يجد المالكي من يهلل لخزعبلاته وأكاذيبه المتكررة التي تنسينا سلوكياته المشبوهة، ولا دهشة من صمتنا وخيبتنا إن رأينا المال يتدفق من أجل تحريك هذه الدعوى المزعومة والوهمية، كما دُفِعَت من قبل للرواية المضللة المتعلقة بالذهاب لمحكمة الجنايات الدولية، والتي لم يعد أحد يسمع عنها شيء، وما صرف عليها من أموال بات لم يعد له قيمة!.

كما أنه لن يكون هناك أبداً مفاجآت جديدة، إن أصبح السذج من العرب والفلسطينيين من أمثالي، يتمتعون بكل ما يعمل على تخدير عواطفهم وتغييب ذاكرتهم ، ويهللون عندما يسمعون مثل هذه الكذبة التي تمثل استمرارا لنكبتهم، ويصدقونها!.

بقلم/ م . زهير الشاعر