تخيل أن تكون بين يديك فرصة لتعيش مرتين، لترى العالم في زمنين، أن تتنفس في صدرين، أن تُذكر بالخير بغيابك في كل حين، وأن تكسب ثوابا حتى وأنت تحت التراب، وأن تعود شابا من بعد أن كسى الشيب رأسك، والتراب بدنك، لن تحتاج مالا، لكي تبني مدرسة، أو عيادة طبية، وهذا لا يرتبط بأبناء صالحين يدعون لك بعد فراقك، ولا بقدر من العلم بعد وفاتك، حسنا، تلك ليست أحجية، إنما هي واقع لا يحتاج سوى قرار، وكلمة نعم .
كل هذا ممكن مع قانون "زراعة ونقل الأعضاء" الذي تم إقراره من قبل الحكومة الفلسطينية في وقت سابق من هذا العام، فهو يستحق بكل جدارة عنوان " على موعد مع الحياة "، إذ أنه شرع أبوابا ظلت موصدة لعقود من الزمن، أمام العديد من المرضى الذين يشكل التبرع بالنسبة لهم أملا وحيدا للانتقال من المعاناة اليومية، وقسوة المرض، نحو حياة جديدة في صفوف الأصحاء، كما أنه شكل خطوة هامة للغاية، جديرة بالإشادة، والدعم، وتسليط الضوء على مختلف الأصعدة، إذ أن هذا القانون الذي يلامس حاجة حقيقية للمواطنين، يشكل تتويجا لجهود فريق فلسطيني متخصص، ومهني، مكون من مختلف التخصصات الصحية، والقانونية، والشرعية، والأكاديمية، وفي مقدمتها جامعة النجاح الوطنية، التي سبق لها أن نظمت العديد من اللقاءات التخصصية حول الموضوع عبر مركز الصحة العامة وحقوق الإنسان، وبمتابعة شخصية من رئيس الحكومة الفلسطينية الدكتور رامي الحمد الله، عبر مستشارته للشؤون الدولية، الدكتورة خيرية رصاص.
تأتي جهود إنشاء المركز الوطني لزراعة الأعضاء لينطلق بالقانون من الواقع النظري، على أهميته، إلى آفاق العمل التطبيقي، المؤسسي، وهو الأمر الذي لا يقل أهمية عن مشاريع طبية تخصصية يجري العمل على بنائها في الوطن، بما في ذلك مركز خالد الحسن لعلاج السرطان وزراعة النخاع، ومستشفى "هوجو شافيز" للعيون، أو البدء بالإعداد لمشروع قانون المسؤولية الطبية، وغيرها من المشاريع التي من شأنها أن توطن العلاج، وفق معايير عالمية، واستقطاب الخبرات الطبية الفلسطينية، والعربية، والدولية، مما يعني أولا الاستثمار في صحة المواطن، وتوفير فرصة حقيقية له للحياة بصحة، والتحرر من المرض، كما أن القانون بمثابة أمل للآلاف من المرضى على قوائم الانتظار لزراعة أعضاء في الخارج، وتوفير نفقات كبيرة على الخزينة العامة، التي هي بالأساس من جيوب دافعي الضرائب الفلسطينيين، وهو الأمر الذي يتيح على المدى الإستراتيجي استثمار تلك المبالغ في قطاعات الصحة والتعليم، والبنية التحتية، وتوفير حياة نوعية للمواطنين.
لكي يتحول هذا القانون إلى ثقافة عامة، ولكي يحقق الهدف المنشود منه ، وهو إنقاذ حياة من يحتاجون من المواطنين، عبر زرع بسمة على ثغر طفل يحتاج كلية ، أو منح فرصة لأب يحتاج رئة أن يوفر لقمة خبز لأسرته بكرامة، أو منح أم فرصة لرؤية أطفالها، وإكمال مسيرة الأمومة، فلا بد من تكامل دور المجتمع المحيط، والتحرر من الأسوار النفسية الوهمية، لا سيما مع إجماع رجال الدين أن التبرع بالأعضاء -وفقا لبعض الضوابط المحدودة التي تقتصر على عدم التبرع بالأعضاء التناسلية أو الأعضاء الناقلة للصفات الوراثية_ هو أمر مباح، ومستحب، وهو الأمر الذي يجب أن يتحول إلى ثقافة حياة، من خلال تسليط الضوء على إنسانية القانون، وهدفه السامي، المتمثل بإنقاذ حياة البشر، ومنح فرصة بالحياة للآخرين، وهو الأمر الذي يتطلب نشر ثقافة التبرع بالأعضاء، بدءا من المدارس، عبر تضمين المناهج الدراسية التي يجري الإعداد لها لثقافة التبرع، وكذلك عبر مؤسسات التعليم العالي، والمؤسسات الدينية، والإعلامية، وصناع الرأي العام، ومؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية حول الموضوع، ونشر ثقافة عنوانها، عش حياتك مرتين، وامنح فرصة لغيرك بالحياة، واجعل من أعضائك صدقة جارية، تكسب ثوابا وأنت تحت التراب، مع كل شهيق وزفير لغيرك، أو كل طرفة عين، أو خطوة، أو بسمة ممن تبرعت له، ومنحته فرصة للحياة.
ليس هناك أجمل من أن يمنحك الله فرصة أن تكون سببا في رفع العناء عن إنسان، أو أن تمنح نورا لمن لم يرى النور في حياته، أو أن تكون سببا في رفع معاناة من لا ينام الليل وجعا، الآن الفرصة بين يديك، ما عليك سوى أن تبادر، وتتخذ القرار .
بقلم : رائد محمد الدبعي