متجاهلاً الذكرى المئوية الأولى لوعد (تصريح) بلفور، استقبل الرئيس عباس قبل نحو أسبوع وفداً من المستوطنين الذي غنى أحدهم لعباس وهو يصفق له: "الله الله الله الله الله الله يا سيدي" مادحاً إياه على قوله:"نحن نقول وقلنا للكثير من الناس "إسرائيل وجدت لتبقى" ".
لم تكن هذه هي المرة الأولى التييتطوع فيها عباس ليشهد الدنيا على نفسه بأن "إسرائيل وجدت لتبقى"، حيث سبق وأن قال لدى استقباله وفداً من الحاخامات اليهود المتطرفين قبل أكثر من خمس سنوات، وتحديداً في 27/8/2012 أن إسرائيل وجدت من أجل أن تبقى، دولة لها كيانها وليس لأن تزول"!!!
فإن كان عباس قد قال ذات مرة إن "إسرائيل وجدت لتبقى"، فما الذي يدفعه هذه الأيام، يا ترى إلى أن يكرر القول ذاته مع فارق أن قوله الأول كان أمام الحاخامات اليهود المتطرفين، فيما يأتي قوله الثاني أمام وفد من غلاة المستوطنين ومعهم ابنة الحاخام الأكثر تطرفاً عوفاديا يوسيف الذي وصف العرب بالأفاعي والذي أصدر فتواه بقتل الأطفال الفلسطينيين في حرب الرصاص المصبوب على غزة عام 2008.
فبعد أن لم يكتف عباس بالتعبير ألف مرة ومرة عن ثقته ويقينهوإيمانه بأن السلام لا يمكن أن يتحقق بالسلاح والمقاومة، لكنه يتحقق بالتفاهم والمفاوضة، ماله يذهب إلى التعبير هذه المرة وقبلها- لقاء لا شئ أبدا- عن إيمانه وقناعته أن "إسرائيل وجدت لتبقى" ؟! ما الذي سيكسبه عباس من قوله هذا؟! وما الذي كان سيخسره عباس لو لم يقل هذا؟! وما الذي اضطره لقول هذا؟! وقبل هذا وبعده، ما الذي اضطره إلى استقبال حاخامات متطرفين؟! وما الذي اضطره للتعبير عن أمنيته الغالية إلى لقاء عوفاديا يوسيف وهو أكثر الحاخامات تطرفاً إذ اشتُهِر بمواقفه الطافحة للعداء للعرب والشعب الفلسطيني كما أشرنا؟!
ألا يرى عباس أنه في قوله "إسرائيل وجدت لتبقى" إنما يقول ما يقوله غلاة المستوطنين والحاخامات المتطرفين، وهو أمر من شأنه أن يشينه؟! ألا يرى عباس أنه في قوله الشائن والمشين هذا إنما يقول تماماً ما قال وما كان يقول – سراً وعلانية- نتنياهو وبيرس وأوباما وشارون ورومني وبن غوريون وليبرمان وبيجين وتيرزاماي وشامير وترامب، و...و...و؟!
أن يبلغ المبلغ بعباس أن يقول ويصرح ثم يؤكد ثم يعيد التأكييد على أن "إسرائيل وجدت لتبقى"فهو أمر له بالحتمية ما بعده، لا سيما وأنه أتى على كثير من الأقوال والأفعال التي تمالئ الاحتلال وتدعمه وتجمل قبحه وتعبر عن حسن ما يفعل تجاهه لتجميل قبحه كأن يصف التنسيق الأمني- بكل ما يملك من قوة وحمأة- بأنه "مقدس مقدس مقدس"، وأن يردد القول مفاخراً- وفي أكثر من موقف ومناسبة- أن الشرطة العباسية اعتادت أن تدخل المدارس بغية التفتيش في حقائب تلاميذ المدارس بحثاً عن سكاكين لمنع عمليات الطعن ضد المستوطنين والجنود الإسرائيليين مُبْلِغاً محاوره- بكل فخر واعتداد- أن شرطته قد وضعت أياديها على سبعين سكيناً في مدرسة واحدة وصادرتها، أو أن يمحو عن دولة الاحتلال جريمة إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف، أو أن يذهب على رأس وفد كبير- لتقديم التعازي لدولة الاحتلال في الرئيس الإسرائيلي بيريس، أو أن يرسل وفداً برئاسة عضو اللجنة المركزية الفتحاوية محمد المدني للتعزيةفي جنرال إسرائيلي من أصل درزي هو منير عمار، أوأن يعبر للتلفزيون الإسرائيلي من المقاطعة عن شغفه للاستماع إلى المطربين الإسرائيليين أمثال موشيه إالياهو، أو أن يبدي سعادته لإهداء الفنان شيموئيل بن عامي هدية هي تمثال له (لعباس) صنعها بيديه، فضلاً عن طأطأة رأسه للحاخام ابراهام جولن كي يباركه بقراءة آيات تلمودية على رأسه، أو أن يجيب بثقة وتحفز وحماسة كلما سُئِل عن الجنود الصهاينة الثلاثة الذين تم أسرهم فيقول إنهم بشر مثلنا وسوف نعمل على إعادتهم لأهلهم وذويهم وسوف نحاسب خاطفيهم (ولا يريد عباس أن يقول آسريهم)، أوأن يعلن صباح مساء وكلما سُئِل أنه ضد المقاومة وضد الكفاح المسلح، وأنه مع التفاوض والتفاوض والتفاوض ثم التفاوض وأنه لا سبيل لنيل حقوقنا إلا التفاوض حتى وإن فشل التفاوض فليس أمامنا إلا التفاوض و...و... إلخ.
وبعد، فما كان ضر الرئيس لو تذكر ما تعلمناه ونحن صغار وهو "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب؟!" ما كنا ضر الرئيس لولاذ بالصمت ولم يقل إن "إسرائيل وجدت لتبقى"؟! ما كان ضره لو قال كل ما جال في خاطره إلا أن يقول قبل أكثر من خمس سنوات إن "إسرائيل وجدت لتبقى دولة لها كيانها وليس لأن تزول" ثم يتبع ذلك قبل نحو أسبوع من اليوم بقوله لمجموعة من المستوطنين إن "إسرائيل وجدت لتبقى"، فيكافئه أحد المستوطنين بالتصفيق والغناء قائلاً: "الله الله الله الله الله الله يا سيدي" ممتدحاً قول عباس الذي لا يقوله إلا من يتنازل عن بلاده وأرض وطنه ومسقط رأسه.
أما آخر الكلام، فإذا كان الرئيس يرى أن "إسرائيل وجدت لتبقى" فمن نحن؟! وأين نحن؟! وإلى أين نذهب؟! وإذا كان الرئيس يرى - كما قال غير مرة- أنه مع المفاوضة وضد المقاومة، فقد وجب تذكيره وهو رئيس حركة فتح التي تقود السلطة بما يأتي:
- لقد وصفت حركة فتح ثورتها ضد الاحتلال بأنها شعبية مسلحة وفق المادة 1 من مقدمة نظامها الداخلي.
- الثورة الشعبية المسلحة هي الطريق الحتمي الوحيد لتحرير فلسطين وفق المادة 17 من النظام الأساسي لحركة فتح.
وإذا كان الرئيس يرى أن "إسرائيل وجدت لتبقى" فهل ترى حركة فتح التي يرأسها هذا الرئيس ما يراه هذا الرئيس، علماً أن المادة (12) من النظام الأساسي لحركة فتح تنص على "تحرير فلسطين تحريراً كاملاً وعلى تصفية الكيان الصهيوني اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً، وثقافياً"، وأن المادة (13) تقضي بأن "الكفاح المسلح استراتيجية وليس تكتيكاً، والثورة المسلحة للشعب العربي الفلسطيني عامل حاسم في معركة التحرير وتصفية الوجود الصهيوني ولن يتوقف هذا الكفاح إلا بالقضاء على الكيان الصهويني وتحرير فلسطين".
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة
رئيس "جمعية أساتذة الجامعات- فلسطين"