لم تكن فلسطين أرضاً فراغ منذ بدء الخلق هي ملك سكانها، فقد شهدت فلسطين إنشاء أول الحضارات الإنسانية على الإطلاق، ففيها أول مدينة أقامها الإنسان على الكرة الأرضية (مدينة أريحا) ليس المقصود من ذلك البحث في قيمتها التاريخية فقط بقدر ما نريد أن نؤكد على حقيقة تاريخية إنسانية إجتماعية سياسية قانونية، وهي أن فلسطين ملك شعبها الفلسطيني من نهرها إلى بحرها، وما العدوان الإستعماري الذي تعرضت إليه في بدايات القرن العشرين وتواطئ قوى الإستعمار البريطاني والعالمي مع الصهيونية العالمية لشطب هذا الإقليم وشطب حقوق شعبه العربي الفلسطيني فيه، وعدم تمكينهم من بناء دولتهم وإستقلالهم ومستقبلهم أسوة ببقية الشعوب المستعمرة والمنسلخة عن الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين، وإقامة الكيان الصهيوني على الجزء الأعظم من إقليم فلسطين مع منتصف القرن المنصرم، وإستغلال حالة الضعف والغباء العربي والظروف الإستعمارية التي كان يخضع لها العالم العربي بما فيه دوله المستقلة آنذاك والذي مكن من تمرير المؤامرة وتمزيق إقليم فلسطين وتشريد معظم الشعب الفلسطيني، إن ذلك لا يفقد الشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية والإجتماعية والقومية والسياسية في وطنه فلسطين كل فلسطين، لقد إرتسمت الكارثة وبصورة تراجيدية محزنة عند منع شعب فلسطين من مقاومة الإستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية، ودخلت الجيوش العربية عام 1948م ومنيت بهزيمتها الكبرى مخلفة النكبة الكبرى، وتوجت هذه الهزيمة بتوقيع إتفاقات الهدنة في جزيرة رودس 1949م بين كل من الدول العربية مصر والأردن وسوريا ولبنان على التوالي مع الكيان الصهيوني الوليد وترسيم خطوط الهدنة ووضع المراقبين الدوليين وقوات الطوارئ الدولية لتحرس هذه الحدود وحالت دون السماح للشعب الفلسطيني من إختراق هذه الخطوط ومقاومة المحتل الغاصب لوطنه، والحقت بقية الأراضي المتبقية من فلسطين، قطاع غزة بمصر، والضفة الغربية بالأردن، لتكتمل أركان الجريمة بضياع هذه الأجزاء في حرب 1967م وإعتبارها نكسة، لم يستسلم الشعب الفلسطيني لهذه الجريمة الكارثية التي حلت به فقد إنطلق في منتصف ستينات القرن الماضي 01/01/1965م بثورته المعاصرة، ليخلخل أركان العدو الصهيوني، ويفرض نفسه من جديد ويوقف سياسة التغييب والشطب له من جغرافية المنطقة والإقليم، وينتزع إعتراف العالم به بما فيه الكيان الغاصب نفسه، فالشعب الفلسطيني حقيقة واقعة عصية على الإنكار أولاً بفعل تواصله وإستمراره فوق أرضه في الأراضي المحتلة عام 1948م وكذلك فيما أحتل في العام 1967م، وتمسك اللاجئين الفلسطينيين بحقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم، وإعادة بناء حياتهم ومستقبلهم في فلسطين، وتعاطياً مع النظام الدولي القائم والمنحاز للعدوان الصهيوني ومع ما يسمى بشرعيته الدولية وقراراته المائعة التي لم يجد أي منها طريقه للتنفيذ، وتماشياً مع الأوضاع العربية التي لا زالت كارثية ولا تسرُ الصديق، يقبل الفلسطينيون بحل واقعي يؤدي إلى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية والتي من شأنها إنهاء الإحتلال الصهيوني للأراضي المحتلة عام 1967م وتمكينه من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحل مشكلة اللاجئين وفق القرار 194 القاضي بالعودة والتعويض، ولكن مع هذه الميوعة في الموقف الدولي وفقدان قراراته قوة الإلزام والتنفيذ، والتداعي والتراخي العربي، واصل الكيان الصهيوني إحتلاله الأراضي والتنكر لكافة القرارات الدولية، وواصل سياسته الإستيطانية وإجراءاته العدوانية الهادفة إلى عدم التمكين من إقرار حل واقعي يؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية على تلك الأراضي (المحتلة عام 1967م) بجانب كيانه الغاصب، ظناً منه والقوى المتواطئة معه، أن ذلك يضمن له السيطرة الكاملة على إقليم فلسطين والأمن والسلام مع الفلسطينيين ومع الجوار العربي المتهافت إلى درجة التواطئ مع مخططاته وعدم الإستشعار لدرجة الخطورة التي يمثلها هذا التوجه في العدوان على الأمن الوطني والقومي العربي لجميع الدول العربية وما يخلفه من حالة عدم إستقرار في المنطقة على غرار ما تشهده من حرائق وإنفجارات يتطاير شررها إلى أنحاء مختلفة.
الفلسطينيون باتوا حقيقة ثابتة إجتماعياً وسياسياً عصية على الذوبان أو التغييب، فإن تدمير حل الدولتين فوق إقليم فلسطين يفتح الباب على مصراعيه لحل الدولة الواحدة، ولكن ليست الدولة العنصرية الإستعمارية الإستيطانية التي يسعى الكيان الصهيوني لفرضها بالقوة وطمس الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، هذه الدولة العنصرية الإستعمارية يرفضها ويقاومها الشعب الفلسطيني بكل فئاته وقواه، مؤكداً أن البديل الطبيعي لها هوالدولة الواحدة الديمقراطية على كامل إقليم فلسطين التاريخية، التي تقوم العلاقة فيها بين الفرد والدولة على أساس المساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات، فالدولة هي دولة سكانها على إختلاف عقائدهم وألوانهم وأجناسهم، فذلك هو الحل الطبيعي والوحيد الكفيل بإنهاء هذا الصراع، وإحلال الأمن والسلام من خلاله للجميع، والذي لابد أن يجد السند والتأييد من المجتمع الدولي وقواه المختلفة، التي ترفض قوانينه وقراراته كافة أشكال الميز العنصري، كما رفض وأسقط النظم العنصرية في جنوب القارة الإفريقية وانتصر للعدالة والمساواة بين البيض الأوروبيون المستوطنون والسكان الأفارقة الأصليون، وهنا أستذكر مداخلتي القصيرة على منصة مؤتمر حركة "فتح" السابع المنعقد في رام الله في نوفمبر 2016م، والتي قصرتها على طرح هذه الرؤية وضرورة التأكيد على رفض الدولة العنصرية الواحدة التي يفرضها الإحتلال على الأرض كبديل لحل الدولتين، أن نؤكد تمسكنا بحل الدولتين وأمام التراخي الدولي من جهة وسياسات الكيان الصهيوني المنكرة له لغاية الآن من جهة أخرى، فإنه يفتح الباب واسعاً أمام حل الدولة الواحدة ولكن ليست الدولة العنصرية التي يسعى إليها والمرفوضة دولياً وعربياً، وإنما الحل العادل الذي يؤدي إلى إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة التي ترتكز على أساس المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات، والتي تؤدي إلى هزيمة المشروع الصهيوني الإستعماري العنصري الإستيطاني التوسعي، وإعادة الحقيقة التاريخية والسياسية والقانونية لإقليم فلسطين وإحلال الأمن والسلام للجميع في فلسطين والمنطقة برمتها.
هذا الإستعراض قد يكون معروفاً للكثيرين، لكن الهدف منه هو أن تدرك القوى الفاعلة في السياسة الدولية وفي مقدمتها دول مجلس الأمن الدائمة العضوية، والمنتظم الدولي والدول العربية الشقيقة، أن شعب فلسطين لن يستسلم أمام جبروت القوى العنصرية والتراخي الدولي والتهافت العربي، الشعب الفلسطيني يملك من عناصر القوة والثبات ما يحول دون أن يتمكن الكيان الصهيوني من فرض رؤيته للدولة العنصرية الواحدة، ويملك الشعب الفلسطيني مساحة التحرك على الأرض الفلسطينية التي يتواصل صموده عليها ويؤسس عليها مؤسسات دولته التي يشهد له الجميع بالقدرة والكفاءة المتميزة التي تؤهله لإفشال الرؤية الصهيونية، وإنتزاع إستقلاله وبناء دولته ومستقبله.
وهنا أتوجه للولايات المتحدة وإدارتها برئاسة السيد دونالد ترامب وكذلك القوى الدولية الأخرى الفاعلة في جهود إقرار الأمن والسلم العالمي أن يأخذوا ذلك بعين الإعتبار، وإلا فإن أية جهود تستهدف إقرار تسوية فلسطينية إسرائيلية تنكر على الفلسطينيين حقهم في الدولة المستقلة كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967م وحل مشكلة اللاجئين لن تجد طريقها للنجاح، وستكون جهوده داعمة لسياسات الدولة الواحدة العنصرية المتعارضة مع منطق الحقيقة السياسية والتاريخية والإنسانية، والتي ستواجه من الشعب الفلسطيني ومن جميع القوى الرافضة للتمييز العنصري، والمناضلة من أجل العدالة والديمقراطية والحرية والمساواة، وساعتها لن يجد الكيان الصهيوني مصيراً يستقبله غير المصير الذي آل إليه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا نهاية القرن الماضي.
في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تداعيات جسام ورسم لنظام إقليمي جديد يحكم منطقة الشرق الأوسط برمتها، على الدول العربية التي وقعت إتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية، أن يعلنا ربط مصير هذه الإتفاقيات معه بمستقبل إنهاء الصراع الفلسطيني معه، فلا مجال أن تحترم هذه الإتفاقيات وأن يجري الإلتزام بها دون إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإنهاء إحتلاله للأراضي الفلسطينية، وكذلك الدول العربية الساعية للتهافت لتطبيع علاقاتها معه، أن يكون شرطها لذلك هو أيضاً إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إما حل الدولتين وإما حل الدولة الواحدة الديمقراطية التي تقوم على أساس المساواة ورفض كافة أشكال الميز العنصري.
لقد ناضل الفلسطينيون قرناً كاملاً ولم يسلموا بحقوقهم، وهم قادرون اليوم على النضال بكافة أشكاله لعقود أخرى حتى يستعيدوا هذه الحقوق كاملة غير منقوصة، ويحظون في ذلك بتأييد جميع القوى المحبة للسلام والعدل والمساواة، ولن تضيع هذه الحقوق طالما وارءها شعب مقاوم ومناضل مثل الشعب الفلسطيني الذي أبهر العالم ويبهره كل يوم بإسطورة صموده وتفوقه وتميزه رغم شتى الظروف الصعبة التي مّر بها، فهو الرقم الصعب في المنطقة وسيبقى الرقم الصعب في هذه المرحلة التاريخية من كفاحه التي لا يستطيع أحد أن يتجاوزه، مهما كانت الضغوط حتى تحقيق أهدافه الوطنية المشروعة.
فهل من مدرك لهذه الحقائق السياسية على مستوى القوى الدولية الفاعلة وأخص قيادة الكيان الصهيوني أولاً ثم الإدارة الأمريكية ثانياً وبقية الدول والقوى الفاعلة في صناعة السلم والأمن الدولي.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس