لا يمكن أن تكون فلسطينياً دون أن تكون عربياً، ولا يمكن أن تكون عربياً دون أن تكون فلسطينياً، ومن هنا يأتي إعتبار القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية وطنية فلسطينية فقط بل هي قضية قومية إسلامية إنسانية دولية بإمتياز، ولكن الخطورة تكمن في الذوبان أو التوهان في سراديب أي من الأبعاد مافوق الوطنية، وهذا ما أدركته الطليعة النضالية الأولى للحركة الوطنية المعاصرة (حركة فتح) منذ بدايات إنطلاقتها في ستينات القرن الماضي، ذلك ما مثل نقطة خلافية مع بعض القوى السياسية ذات الأبعاد القومية أو الإسلامية أي المافوق وطنية الناشطة في الساحة الفلسطينية ولكن من خلال الممارسة السياسية والكفاحية والتي قادتها ووجهتها حركة "فتح" على مدى خمسة عقود نجحت في بلورة وصياغة العلاقة بين هذه القوى على أساس مركزية البعد الوطني في القضية الفلسطينية الجامعة لقوى الشعب الفلسطيني على إختلاف توجهاتها وألوانها السياسية وتكريس مبدأ الوحدة الوطنية في إطار المؤسسة الوطنية الجامعة وهي منظمة التحرير الفلسطينية بالتوافق مع المجال العربي والإسلامي والدولي، وبالتالي صياغة الهوية الوطنية الفلسطينية بأبعادها المتعددة وأوجهها المختلفة دون الإخلال بمكانة القضية الفلسطينية على مستوى أيٍ من أبعادها المختلفة، محافظة على مركزيتها كقضية جامعة للعرب والمسلمين من جهة وتحظى بدعم كافة القوى التقدمية والمناضلة من أجل العدالة والتحرر والتقدم على مستوى العالم من جهة أخرى، هذه الصيغة التي إرتكزت على أساسها سياسة مبدأ القرار الوطني الفلسطيني المستقل دون أن يفقد الفلسطينيون دعم الأشقاء والأصدقاء من الدوائر والأبعاد الثلاثة التي أشرنا إليها، يضاف إلى ذلك سياسة مبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين من عرب وغيرهم، مما مَكَنَ مِنَ النأيِ بالنفس عن الزجِ بالحركة الوطنية الفلسطينية وقياداتها وأطرها وفصائلها الأساسية وفي مقدمتها حركة "فتح" والتي تعتبر التيار أو الفصيل القائد للحركة الوطنية الفلسطينية من الإنخراط في سياسات المحاور والوقوع في شباك التجاذبات السياسية والمحاور العربية والإقليمية، وقد كان لدرس الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) قيمة بالغة وأثراً هاماً في تأكيد مبدأ إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني، وتأكيد مبدأ الإبتعاد عن التدخل في الشئون الداخلية لأي دولة عربية أو غيرها، وتجنيب الشعب الفلسطيني وقضيته كل ما ينجم عن ذلك من أخطار تهدد مصالح الفئات الفلسطينية المنتشرة في الأقطار العربية المختلفة، طبعاً هناك إستثناءات لبعض الفصائل الهامشية التي يرتبط وجودها إرتباطاً جذرياً ببعض الدول أو التيارات السياسية مافوق وطنية، ولكن تأثيرها يبقى هامشياً.
قد أثبتت هذه السياسة المتبعة من قبل م.ت.ف وقيادتها الوطنية نجاعتها في عدم الزج بفلسطين في الخلافات العربية العربية، والمحافظة على علاقة متوازنة مع جميع الأطراف والدول العربية على إختلافها، وهنا يقدر للأشقاء العرب أنهم يقدرون الظروف الخاصة للشعب الفلسطيني وخصوصية قضيته، وضرورة إبعادها عن التجاذبات السياسية العربية والإقليمية المتحركة مثل حركة رمال الصحراء، ولا أدل على نجاح هذه السياسة الفلسطينية التي تقوم على أساس النأي بالنفس عن هذه الخلافات والصراعات المختلفة التي أشعلها (الربيع العربي) والذي أهلك العديد من الدول والشعوب العربية ولا زالت ألغامه متفجرة هنا وهناك، هذه السياسة الحكيمة تمثل الداعم الأساسي لضمان مبدأ إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني الذي يحافظ على نقاء القضية الفلسطينية من التشوه ومن الإنخراط في أية خلافات تضعف القضية الفلسطينية وتضعف الموقف العربي الداعم والمساند لها، وبالتالي فإن التمسك بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل ليس نزقا سياسياً أو إغراقاً في القُطرية المقيتة بقدر ما يمثل مبدأ وسياسة ثابتة للحركة الوطنية الفلسطينية ترتكز على أساسه العلاقة الفلسطينية مع كافة الأطراف ذات العلاقة عربياً ودولياً، كما أن مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير المعتمد لدى الحركة الوطنية الفلسطينية يوفر المناخ السياسي الضامن لنجاح سياسة مبدأ إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني، وبذلك يتم تحصين الموقف الفلسطيني وإكسابه المناعة السياسية في وجه كافة الضغوط التي يتعرض لها الموقف الفلسطيني والقيادة الفلسطينية من أي جهة كانت عربية أو إقليمية أو دولية، كي تبقى القضية الفلسطينية فوق كافة الخلافات التي قد تعصف بالمنطقة والإقليم بين الفينة والأخرى، وجميعها خلافات عابرة ومتغيرة إذا ما قورنت بحقيقة وطبيعة القضية الفلسطينية المتولدة عن إستمرار إغتصاب فلسطين من قبل الكيان الصهيوني ومواصلة سياسته العدوانية والتسلطية على الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة الوطنية والقومية في وطنه فلسطين من جهة وعلى شعوب المنطقة العربية من جهة أخرى، وفي هذه المرحلة الصعبة تتجلى أهمية التمسك الفلسطيني بمبدأي القرار الوطني المستقل والإلتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، كمرتكزين أساسيين تبنى عليهما مواقف السياسة الوطنية الفلسطينية.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس