لم تشهد قرية "مصمص " الحزينة الباكية موكباً جنائزياً بهذا الحجم والضخامة مثل الموكب الجنائزي المهيب لابنها المرحوم القيادي البارز في الحركة الاسلامية والعمل الوطني، الاعلامي والكاتب السياسي عبد الحكيم مفيد اغبارية ، منذ جنازة الشاعر الشهيد راشد حسين ، الذي عاد اليها عودة تكيد الاعادي ، بعد احتراقه في غرفته بنيوورك ، ليحتضنه ثراها الفلسطيني المقدس .
فقد ضاقت شوارع وازقة وحارات" مصمص " الثاكلة ، التي اتشحت بالحزن والسواد ، ضاقت بالجماهير التي تدفقت وتقاطرت من كل انحاء البلاد ، من اعالي الجليل وحتى اقاصي النقب ، لتشارك في القاء النظرة الاخيرة على الحكيم وتشييع جثمانه الطاهر . وقد تجلت في جنازته المهيبة اروع صورة للوحدة الوطنية بين مختلف الاطياف والمركبات والاحزاب السياسية ، التي شارك فيها جل القيادات والشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والأدبية . وكيف لا تلتقي وتجتمع معا لتودع الحكيم ، الذي عرف عنه انفتاحه على كل القوى والتيارات السياسبة والفكرية الفاعلة على ساحة جماهيرنا العربية ، من خلال لجنة المتابعة العربية التي كان احد اعضائها الناشطين والفاعلين بين مركباتها ، وعمله الجاد والمخلص في سبيل صيانة وحدة العمل الوطني في الداخل ، وشكل دوره رافعة لكثير من العمل الوحدوي المشترك حول قضايا جمعية ملحة .
ان موت الحكيم المفاجىء المباغت ترك اثراً عميقاً ولقي ردود فعل واصداء جماهيرية واسعة تجسدت على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي ، فلم تتوقف الاقلام عن كتابة البكائيات والرثائيات وكلمات التأبين الصادقة العفوية ، وهذا يعيد الى اذهاننا موت القائد الشيوعي الكبير ، رئيس بلدية الناصرة وعضو الكنيست ، الشاعر توفيق زياد ، الذي توفي اثر حادث طرق مروع على طريق اريحا عندما كان عائداً من لقاء مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات .
عبد الحكيم مفيد ترك الكثير من المعالم والقصص والروايات الخالدة ، ولم يلن أمام قهر الجلاد ، ورداءة الزمن ، وقتامة الواقع ، انه التضحية والفداء ، وهو ااقادم من عمق التاريخ الى حتميات المستقبل ، ولو انه كان يعرف أن كل هؤلاء الناس الذين شاركوا في جنازته ، التي جمعت بين كل المتناقضات والاطياف السياسية ، يحبونه كل هذا الحب لرفض أن يموت .
لقد ترجل عبد الحكيم مفيد عن صهوة جواده ، مودعاً الحياة ، ومرتحلاً الى عالم الخلود ، حاملاً مصمص وعكا وحيفا ويافا والقدس وغزة وكل مدن وعرائس فلسطين في القلب ، وهو باق في ضمير الجماهير التي أحبها واحبته وودعته الى مثواه الأخير ، امانة في عنقها وفي عقد الكفاح والنضال المقنن وقلب العمل الوطني الوحدوي الذي اعطاه ومنحه عمره القصير .
رحمك الله يا صاحبي الحكيم ، يا زميل القلم ، ويا رفيق الصبا والشباب ، وليس امامي في لحظات الوداع الأخيرة سوى كلمات الشاعر الراحل سميح القاسم في قصيدته " أنت تدري كم نحبك " التي رثى فيها صديقه الشاعر الفلسطيني ابن غزة معين بسيسو :
يا صاحبي
في النعش متسع لأغنيتين ا
واحدة تقول : أنا الكفن
وتقول واحدة :
تعبت من الرحيل الى الرحيل
وتعبت من وطن يموت بلا وطن !
يا صاحبي حياً وميتاً
أيها النجم البخيل
في النعش متسع لصعلوكين
كيف مضيت وحدك
دون صاحبك القتيل ؟!
زيتونة الطوفان في قلبي
تعاتب فيك بركان النخيل .
بقلم/ شاكر فريد حسن