لفت انتباهي موضوع التطور الاقتصادي وارتباطه بتطبيق الديموقراطية، لدرجة اني بت استنتج الكثير من المواقف التي لم اطرحها بوضوح كامل بعد، خوفا من التسرع قبل الفهم الكامل لما يجري من تحولات في عالم اليوم، خاصة بعد فشل التجربة الاشتراكية، وهذا الفشل بجوهره هو فشل اقتصادي، وفشل سياسي وفشل فكري لنهج وإدارة اقتصادية، اجتماعية وسياسية ..
بعض الأفكار التي تراودني منذ فترة، كلما تعمقت بالاطلاع على تطور الدول وارتباط التطور الاقتصادي المؤكد بتطور النظام الديموقراطي، يجعلني على قناعة اننا عبرنا سنوات عجاف فكريا (النظرية الاشتراكية)، بتأثير مفاهيم إنسانية في طابعها، لكنها غير قابلة للتطبيق لأسباب عديدة وهامة وكثيرة تحتاج مني الى المزيد من المراجعات.
ما أعنيه ان الفكر الماركسي الاشتراكي كان بجوهره حلما طوباويا، اكثر مما هو مفهوم لبناء مجتمع جديد أكثر عدلا، أي اكثر ديموقراطية بالمقام الأول .. لذلك وصف اشتراكية ماركس بالعلمية هو اشبه للضرب في المندل!!
من هنا قمت في السنوات الأخيرة بمراجعة فصول أساسية من كتاب "رأس المال " لكارل ماركس، وكتابات مختلفة أخرى منها "البيان الشيوعي"، وكتاب "المجتمع المفتوح واعداؤه"" لكارل بوبر، ومقاطع من كتاب "الرأسمالية -المثال" لأيان راند، للأسف أقول انني اكتشف اننا كنا ضحية حلم جميل، حلم انساني، لم تنشأ الظروف، او القاعدة المادية والثقافية لتطبيقه .. بل ويبدو لي ان أسلوب عرض النظام الرأسمالي حسب الادبيات الفكرية الاشتراكية، كانت تفتقد لرؤية الحقائق الاقتصادية لنظام الرأسمالي التي تدفع المجتمعات نحو نهضة شاملة تطول السياسة أيضا، وتغير الواقع الاجتماعي من واقع فقر الى واقع نمو لا يتوقف، من واقع نظام قمع الى واقع نظام سياسي يطور الشكل الديموقراطي بما فيه توفير الحماية للمواطنين. لذا نقد الرأسمالية الناشئة كان أقرب لحلم انساني يراود مجموعة من الثوريين الانسانيين في مرحلة متقدمة جدا من بداية المرحلة الرأسمالية، دون فهم ان النمو سيقود المجتمع الى واقع سياسي واجتماعي ورفاهي غير مسبوق. مرحلة لا شك ليست سهلة، وغير واضحة المعالم بمسارها التاريخي، طبعا اقرت مواقف وايديولوجيا دون ان تأخذ حقائق أساسية .. ودون ان يجري تطوير المفاهيم بناء على التغيرات العميقة التي بدأت تبرز بقوة واتساع.
الفكرة التي طرحها ماركس في كتابه "رأس المال" (عام 1867) لم يجر تطويرها بناء على فهم التغيير الاجتماعي الهائل الذي أحدثه الانتقال الى الاقتصاد الرأسمالي (لنقل الصناعي أيضا) من حيث مضاعفة الثروة الاجتماعية، وانعكاسه على النظام من حيث تعميق التحولات الديمقراطية. ما جرى كان مواصلة اتهام الرأسمالية باستغلال الضعفاء، وخلق اغتراب اجتماعي، ونهج غير انساني ومدمر للمجتمع .. بتجاهل كامل ان الرأسمالية كانت تحقق إنجازات اجتماعية ورفاه انساني غير مسبوق يتجاوز النظام الاشتراكي.
كان تجاهلا تاما من ان الأسلوب الاقتصادي الوحيد الذي عرفته الإنسانية (الرأسمالية في بداياتها) حيث الثراء لم يكن بالنهب (كما كان حال المجتمع الاقطاعي) انما بالإنتاج والتجارة (طبعا باستغلال فوة العمل وهل من طريقة عبقرية أخرى لدي المنظرين الماركسيين؟). هنا بدأ ينشأ داخل المجتمع الرأسمالي نظام دولة يوفر شروطا أولية لحماية الانسان وحقوقه، طبعا تلك كانت البدايات، لكن لم يجتهد المنظرين الاشتراكيين بفهم مجراها التاريخي، واتجاهها نحو بناء مجتمع ديموقراطي يضمن بقوانينه حماية حقوق هامة للعمال والمواطنين عامة. وتواصل التعامل مع المجتمعات الرأسمالية بنفس الذهنية المشوهة التي سادت المرحلة المبكرة للرأسمالية التي تناولها ماركس في نظرياته.
النظام الرأسمالي لم يكن نظاما يستند الى نظريات مسبقة جاهزة، النظريات الاقتصادية للنظام الرأسمالي جاءت بمرحلة متأخرة من بداية بروز الانتاج الرأسمالي.
الرأسمالية نظام تطور ويتطور ضمن الممارسة والتجربة، مما يلزم المفكرين الماركسيين بالأساس، الى إعادة عقلنة الكثير من المفاهيم التي ثبت بالتجربة انها بعيدة عن الواقع الرأسمالي كما ارتسم بالأدبيات الماركسية في القرن التاسع عشر والعشرين وبعضة متداول بعقلية مغلقة حتى أيامنا، إذ تواصل تصويره حتى اليوم قوى تسمى باليسار، وخاصة اليسار الماركسي، بطريقة سلبية جدا لا تتمشى مع الواقع، رغم اني على قناعة انه لا شيء كامل تماما في المجتمعات الرأسمالية .. لكن بالمقارنة مع النظام الاشتراكي، التفوق الحاسم كان للرأسمالية، ليس فقط بتطور نظام ديموقراطي، بل بمضاعفة الثروة المادية للمجتمع التي وفرت شروطا لم تنشا اطلاقا بالنظام الاشتراكي من حيث مستوى الحياة والحرية الشخصية.
اعتقد أكثر من ذلك ان اكتشاف ماركس للقيمة الزائدة، لم يكن اكتشافا عبقريا، لأنه مسالة تلقائية لكل انتاج كان، ولا يمكن احداث نهضة اقتصادية بدون المردود الذي يسمى بالقيمة الزائدة ــ وللتسهيل تعالوا نسميها الأرباح .. هل من منتج ومستثمر وتاجر يبني يوظف أمواله بدون حساب الأرباح .. والقيمة الزائدة على رأسها؟
يواصل اليسار الماركسي الترديد بشكل ببغاوي لصياغات لم يعد لها مكانا في عالمنا الذي تسوده الرأسمالية اليوم، بصفتها النظام الاقتصادي والسياسي الوحيد الذي
يواصل التطور ويوفر نظاما ديموقراطيا، رغم كل السلبيات التي يمكن سردها (وهي كثيرة).. لكنها مهما كانت تلك السلبيات، الا أن ما كان يجري في الأنظمة الاشتراكية، كان أكثر سوءا واستبدادا وقمعا بما لا يقاس .. لذا سقطت الاشتراكية وسادت الرأسمالية .. ومن المهم الإشارة ان رأسمالية اليوم ليست رأسمالية ماركس من القرن التاسع عشر. وهنا الفرق العظيم!!
أقول بوضوح، وهو قول اولي، ان الأسلوب الرأسمالي، اثبت انه الأسلوب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الأفضل والأكثر عدلا ورقيا ودفعا للمجتمعات نحو الرفاه الاجتماعي من أي نظام اشتراكي منافس. والدولة في النظام الديموقراطي اخذت على عاتقها توفير الحماية للمواطنين، وهذا ما يجب ان يتطور أكثر...
من ناحية إنسانية أيضا، الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي، كانت الأكثر عدلا، لا يمكن الحكم على بدايتها، مرحلة المانيفاكتورة مثلا، او الصناعة ببداياتها. ارتكبت تجاوزات مؤلمة؟ أجل .. لكن البداية لا تشكل اليوم قاعدة فكرية لكيل التهم لنظام يوفر الرفاهية والديموقراطية والأمان لمواطنيه... حتى لو تضاعف مردوده من "القيمة الزائدة" .. لأنها بحد ذاتها تشكل ثروة اجتماعية يوظف جزء كبير منها، عبر النظام الضريبي لضمان نظام رفاه اجتماعي ومختلف التأمينات الصحية والاجتماعية.
واجب الدولة يجب ان يتعمق أكثر بأن تكون الضامن باتجاه توزيع عادل للثروة الاجتماعية. هنا يجب ان يبرز دور اليسار الاجتماعي.
الأنظمة الرأسمالية المتطورة أصبحت قبلة لجميع المضطهدين والمقموعين والفقراء، الى جانب رجال العلم والأبحاث الذين يهجرون اوطانهم المتخلفة باقتصادها ونظامها الديموقراطي الى البلدان الرأسمالية المتطورة ..
طبعا الموضوع أوسع مما اطرحه الآن كفاتحة لمقالات قادمة، وخاصة بما يتعلق بموضوع الشركات العملاقة، لكني أوكد أمرا جوهريا، ان النظام الرأسمالي سياسيا واجتماعيا كان وما زال الأكثر عدلا من أي نظام آخر بما في ذلك النظام الاشتراكي الذي انهار دون أن تهب الجماهير وجيشها الاشتراكي للدفاع عنه.
في قول مشهور من عام 1994 للرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون حول الصين، التي عمليا تخلت عن مبادي المفاهيم الاشتراكية في الاقتصاد وتطبق نظاما رأسماليا لا يخجل أكثر الدول الرأسمالية تطورا (اقتصاد السوق) قال:" القوة الاقتصادية الصينية اليوم، تجعل محاضرات الولايات المتحدة للصين عن حقوق الإنسان عملاً وقحاً، وفي خلال عقد من الزمان لن يكون لها لزوم، وبعد عقدين ستكون شيئاً مضحكاً".
وهي بالفعل أصبحت شيئاً وقحاً ومضحكاً في نهاية القرن الماضي.
السؤال الذي يفرض نفسه، ليس كون الولايات المتحدة والدول الغربية الاخرى، ترى نفسها بمثابة القيِّم على تنفيذ مبادئ الديمقراطية. إنما ما هي العوامل التي تجعل من الديمقراطية امراً يفرض نفسه ولا يستورد من الخارج بشكل هجين، ولا يمكن تصديره، كما تصدر الأفلام الأمريكية مثلاً؟!
إن تشكيل رؤية عامة عن آفاق الديمقراطية في مختلف دول العالم، يشير بوضوح الى أن التنمية الاقتصادية، هي محرك أساسي لدمقرطة الأنظمة، بينما استمرار تعثر التنمية، مرتبط بظواهر تفشي الاستبداد وتقليص فظ لحقوق الإنسان.
ان طرح شعار دمقرطة الانظمة الذي بادرت اليه إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، تظهر غباء تلك الإدارة، إذ لم تطرح مفهوم التنمية الاقتصادية كشرط لدمقرطة الأنظمة.
تجربة العديد من الدول، خاصة في جنوب شرق آسيا، تشير بوضوح الى أن التنمية، فرضت المزيد من الديمقراطية بشكل تلقائي.
من الواضح ان هناك تأثيرات ثقافية ودينية ايضاً، ولكني لا أرى أنها المقرر الحاسم في دمقرطة النظام، إنما هي عوامل قد تسرع أو تعرقل المسار الديمقراطي.
إن انتشار الديمقراطية، لن يتحقق بظل غياب التنمية الاقتصادية، ولا اعرف اليوم تنمية أفضل وأكثر انطلاقا من الأسلوب الرأسمالي، حيث نشهد تحولات ديمقراطية، سنجد أنها نتيجة طبيعية لزيادة قوة البرجوازية والطبقات الوسطى، وليس بسبب التحدي الذي الطبقي الذي يثرثر به اليسار الماركسي، لأن الديمقراطية في هذه الحال، تشكل قاعدة تنموية مناسبة للبرجوازية وليس لأن النظام قرر تغيير نهجه او تبنّي عقائد جديدة.
هذا الاتجاه نلاحظه اليوم مثلاً في الصين، التي فتحت أبوابها للمستثمرين، والكثير من الاستثمار في الاقتصاد الصيني في العشرين سنة الأخيرة، جاء من مصادر من خارج الصين.
أكثر من ذلك اندفع رجال الأعمال الأمريكيون والاوروبيون بلهفة كبيرة لتوسيع تجارتهم واستثماراتهم مع الصين ودول ما يعرف باسم "النمور" في جنوب شرق آسيا، التي تميز اقتصادها بالنمو السريع. بل نقلت صناعات كاملة للصين ودول عديدة من الدول الرأسمالية.
بالتالي نجد اليوم أن مساحة الديمقراطية تتعمق مع تعمق النمو الاقتصادي وتطور العلوم والتكنولوجيا وازدياد قوة الدول الاقتصادية وانعكاس ذلك على مكانة المجتمع المدني والرقي الحضاري للمجتمع.
بقلم/ نبيل عودة