من لم يكن يتوقع هذه اللحظة فهو لا محالة مخطئ. الذي كان يمنع الرؤساء الأمريكيين السابقين من اتخاذ قرار نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ليس الضغط العربي أو الإسلامي، ولا هدير الجماهير العربية والإسلامية، ولا التهديدات الإرهابية، بل شيء واحد وهو أن اتخاذ هذا القرار هو انتهاك للسياسة الأمريكية الثابتة نفسها، وانتهاك للقانون الدولي الذي ساهمت الولايات المتحدة في صناعته، وانتهاك لقرارات مجلس الأمن التي أجازتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة حول القدس وصوتت لصاحها أو امتنعت عن استخدام الفيتو من أجل أن تمر.
لم يكن لأي رئيس من الحزبين أن يسجل على نفسه أنه انتهك سياسة أمريكية ثابتة، إلى أن جاء دونالد ترامب، أو جيء به، ليتخذ مثل هذا القرار. فهو ليس ملتزما بحزب أو بقانون محلي أو دولي. إنه ذئب منفرد في السياسة الأمريكية، ليس كمثله أحد لا من قبل ولا من بعد. يغرد كما يشاء مرتكزا على عقلية رجل الأعمال الكبير، صاحب الصفقات الرابحة. إنه يفي حق من أوصلوه للبيت الأبيض من أنصار الكيان الصهيوني واليمين المتطرف، ضاربين عرض الحائط بكل ما هو مستقر في السياسة الأمريكية.
رجل أساء للسود والنساء والعرب والمسلمين واللاتينيين ولكل الأقليات، ولا يتمتع باحترام أحد ولا يهمه ذلك. ضعيف مهزوز داخليا ولا يستنمر إلا على حكام عرب يتذللون على أبوابه لنيل رضاه لاستخدام قوته ضد جيرانهم أو أبناء جلدتهم. فهل يخشى أن يغضبوا على قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟
تأكدت جماعة الأيباك (اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة) التي ساهمت بإيصاله للبيت الأبيض نكاية بأوباما، وتأكد البليونير الصهيوني صاحب كازينوهات القمار في لاس فيغاس، شيلدون أديلسون، الذي تبرع بملايين الدولارات لحملة ترامب، وتأكد أنصار ترامب في إسرائيل وأولهم نتنياهو، أن الفرصة الآن قد لاحت وأن الوقت مناسب، وإذا لم يفعلها ترامب فلن يجرؤ عليها أحد.
الوقت مناسب لأن السلطة الفلسطينية فقدت كل مصداقيتها، وباتت عالة على المساعدات الأمريكية والأوروبية، التي تمر عبر البنوك الإسرائيلية أو برضى إسرائيلي. المصالحة تتعثر ولا يبدو في الأفق أن هناك بوادر حقيقية لوحدة وطنية حول برنامج نضالي حقيقي يخرج الأزمة الوجودية من عنق الزجاجة، التي تسبب بها الأوسلويون، من تقدم منهم ومن تأخر.
الوقت مناسب لأن الوضع العربي في أسوأ ما يكون. أربع حروب لم تحسم نهائيا بعد، وأكثر من عشرين أزمة تعصف بالوطن العربي من غربه إلى شرقه. اليمن على أبواب مجاعة، بفعل الجار العربي، وسوريا فيها عشرة ملايين لا يعرفون من أين تأتي وجبتهم المقبلة. وليبيا تتمزق والعراق قد يستغرق إعادة توطين المشردين عدة سنين خوفا من جوع أو من ميليشيات طائفية أو عصابات متمردة. ولبنان على أبواب الانفجار. ومصر تتلقى الضربة من الجماعات الإرهابية تلو الأخرى، وترد الحكومة عليها بمزيد من خنق الحريات وكتم الأفواه وتجريف القرى والعزب في سيناء. والجماعات الإرهابية تنتشر في أكثر من بلد وبأكثر من اسم، وتؤذي كل الناس إلا إسرائيل فتلك متفرغة لتلطم سوريا على خديها كما تشاء.
الوقت مناسب لأن في بعض الدول الخليجية قيادات رعناء خرجت من أقبية العلاقات السرية مع الكيان الصهيوني، لتعلن نهاية الزواج العرفي وبداية التحالف العلني. وقد أطلقت هذه الأنظمة مؤخرا ثلة من الرعاع الجهلة لشيطنة الشعب الفلسطيني، واتهامه بالخيانة وبيع أرضه. ونقول لهؤلاء الأبواق من أراد أن يخون فليخن باسمه وباسم دولته وعقيدته، ولا يتغطى بالشعب الفلسطيني. إسرائيل تتبجح بعلاقاتها مع إحدى عشرة دولة عربية، وبعض العلاقات جد حميمية، إذ إن إسرائيل لم تعد تقبل بالعلاقات السرية فإما حب علانية وإلا فلا. دول سمحت لترامب بتجريف ملياراتها مقابل الاعتراف بها وضمان سلامتها. دول رقصت له بالسيوف واعتبرته زعيما عظيما أكثر مئات المرات حتى من أنصاره في الولايات المتحدة. دول صفقت له عندما تحدث عن حركة حماس الإرهابية وطار من مطاراتها لتل أبيب مباشرة.
الوقت مناسب، لأن في إسرائيل حكومة للمستوطنين تتخذ من التطهير العرقي عقيدة، وتعتبر الشعب الفلسطيني كله أعداء وتعامل الفلسطينيين في الداخل كطابور خامس. يسوغ لهم حاخامتهم قتل العرب الذين شبههم أحد هؤلاء بأنهم كالأفاعي، يفضل التخلص منها جميعا، حتى لو كانت من بينها أفاع غير سامة.
والوقت مناسب لإسرائيل فهي تعيش أزهى عصورها الاقتصادية والأمنية والسياسية. فعلاقاتها الخارجية ما فتئتت تتسع مع دول كانت بالأمس تعتبر الإعتراف بإسرائيل من المحرمات. أنظر إلى علاقاتها مع الاتحاد الروسي والهند ودول أوروبا الشرقية والآن مع دول القارة الإفريقية، التي تفتح أبوابها الواحدة تلو الأخرى، لدرجة أن نتنياهو أصبح ضيفا متجولا على القادة الإفريقيين من أوغندا إلى كينيا ومن رواندا إلى إثيوبيا. لقد مضى الزمن الذي كانت القارة الأفريقية تعتبر إسرائيل ذنبا من أذناب الاستعمار، حيث قطعت إحدى وثلاثون دولة علاقاتها مع إسرائيل مرة واحدة بعد حرب أكتوبر 1973 بقرار ملزم من منظمة الوحدة الإفريقية.
لهذا ولأسباب أخرى عديدة رأت إسرائيل وحلفاؤها في إدارة ترامب المتصهينة أن الوقت قد حان لتعليق الجرس، ولا أفضل من ترامب الذي لا مرجعية له من القيام بهذا العمل الشائن، الذي يشكل انتهاكا فاضحا وصلفا للقانون الدولي. فماذا نحن فاعلون؟
برنامج مواجهة
اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل تجاوز كل الخطوط الحمراء. ونحن، حكومات وشعوبا ومؤسسات، أمام استحقاق تاريخي، فإما أن يكون هذا الإعتراف طريقا نحو الهاوية أو شعلة نحو النهوض- إما أن يكون أقرب إلى جسد بوعزيزي الذي أطلق شرارة التغيير في بحيرات وطن آسنة، أو صك استسلام عبد الله الصغير أمام فردناند وإيزابيلا عام 1492. فكيف نحول هذه الحادثة إلى مرحلة للنهوض؟
المسؤولية أولا تقع على ملوك الطوائف. فهل سيرتقي أي منها ولو نظام واحد ويجرؤ على قطع العلاقات مع الولايات المتحدة؟ هل سيجرؤ رئيس السلطة الفلسطينية باتخاذ القرار الذي يرتقي لمستوى الحدث، بقطع العلاقات مع الكيان ووقف التنسيق ورمي مفاتيح أوسلو التي جلبت كل هذا الدمار على الطاولة، ويعلن أن أمريكا لم تعد وسيطا، لأنها متماهية مع الكيان؟ هل سيفي أردوغان بوعده ويقطع علاقاته مع الكيان؟ هل تقود الجزائر مرة أخرى جبهة للصمود والتصدي، أم تؤثر السلامة كغيرها. هل يعلن رئيس صندوق القدس سحب سفيره من واشنطن ووقف التطبيع مع الكيان السري منه والعلني؟ هل سينتصر الرئيس السيسي لمشاعر الشعب المصري الذي رفض التطبيع طوال سنوات ما بعد الكامب، ويسمح فقط للمظاهرات الشعبية أن تنطلق بالملايين؟ هل ستأخذ إيران خطوة عملية واحدة تهز الكيان من جذوره بدل الشعارات المتكررة "الموت لأمريكا – الموت لإسرائيل"؟ فلا ماتت أمريكا ولا إسرائيل. هل يتصرف الأسد مرة واحدة كأسد عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وليس عندما يتعلق الأمر بالشعب السوري ويطلق صواريخه ولو مرة واحدة ضد الكيان في عقر داره؟
أما المؤسسات الرسمية سواء الجامعة التي لم تعد عربية، ولا منظمة التهاون الإسلامي ينتظر منهما أي تحرك حقيقي إلا إصدار بيانات تافهة لا يلتفت إليها أحد. وإذا كانتا على قدر المسؤولية فلتنسخا قرار منظمة الوحدة الإفريقية بعد حرب أكتوبر 1973 وتصدرا أمرا ملزما لأعضائهما بقطع العلاقات مع إسرائيل. لو فعلت إحداهما أو كلتاهما شيئا من هذا القبيل لاستعادت شيئا من ثقة مفقودة ولكن لا حياة لمن تنادي.
الشعوب العربية عليها ألا تنتظر إشارة من ملوك الطوائف. عليها أن تعبر عن غضبها ليس بالهاشتاغ ولا بتداول صورة القدس ولا بالتذكير بمظفر النواب الذي صرخ قبل نحو 40 سنة "القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الأرض إلى حجرتها؟". على الشعوب أن تنحاز لضمائرها وتخرج إلى الشوارع وتعلن بداية أيام وأسابيع وسنين الغضب.
القدس قضية الشعوب الحرة التي لا تقبل العبودية. القدس موجودة في قلب كل واحد حر، ذي ضمير وخلق ومبدأ. القدس رمز لكل ما هو جميل. القدس هي إمتحان هذه الأمة. المعركة انطلقت بين ترامب ونتنياهو وبعض ملوك الطوائف من جهة وبين كل شرفاء الأمتين العربية والإسلامية وأنصار السلام والعدل والحرية في العالم ولننتظر من سينتصر في نهاية المطاف.
د.عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي