أدّى القرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى انقلاب السحر على الساحر، فبدلًا من حصول ردة فعل فلسطينية وعربية يمكن احتواؤها - وقُدِّر أن تكون محدودة وقصيرة - شاهدنا ردة فعل فلسطينية وعربية وإقليمية وعالمية شعبية ورسمية فاقت كل التوقعات، وجعلت القوة العظمى الأولى في العالم تعيش في عزلة ديبلوماسية لم يسبق لها مثيل، إذ تعرضت لانتقادات حتى من أقرب حلفائها، مثل بريطانيا، وبدت نيكي هيل، المندوبة الأميركية في مجلس الأمن، كأنها تنعق وحدها مثل البومة إلى جانب إسرائيل. أما الأمين العام للأمم المتحدة ومندوبه للمنطقة ومندوبو 14 دولة ممثلة في مجلس الأمن، إضافة إلى المندوب الفلسطيني، فقد انتقدوا القرار الأميركي بصور متفاوتة.
ونفس الأمر تكرر بشكل أو بآخر في اجتماع وزراء الخارجية العرب، الذين أصدروا بيانًا، ومع ضعفه وكونه لم يرق إلى خطورة القرار الأميركي، لكنه تبنى تقديم قرار عربي في مجلس الأمن ضد القرار الأميركي وفق ما طالب به وزير الخارجية الفلسطيني، وحتى الدول العربية الحليفة لإدارة ترامب والمتوهمة أنها بحاجة ماسة إلى دعمها ودعم إسرائيل في مواجهة الخطر الإيراني المزعوم، الذي يراد له أن يحل محل الخطر الذي تمثله إسرائيل، فهي الأخرى انتقدت القرار الأميركي.
ما كان لردة الفعل الرسمية العربية والدولية أن تأخذ هذا البعد الواسع لولا ما تمثله القضية الفلسطينية، وجوهرة تاجها القدس، من عدالة وتفوق أخلاقي، وقوة جذب هائلة لما يشبه الإجماع الدولي رغم كل ما شهدته من تراجع خلال السنوات الماضية.
1200 مظاهرة شهدها العالم في يوم واحد، بعضها شارك فيها الآلاف، وعشرات الآلاف، ومئات الآلاف، وقارب العدد في بعض البلدان مليون متظاهر، الأمر الذي جسّد حراكًا شعبيًا مرشحًا للاستمرار والتصاعد ترك وسيترك بصماته على المواقف الرسمية.
وما ساهم في هذه الغضبة العالمية أن القرار الأميركي يهدد الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، ما دفع دولًا وأوساطًا وعناصر مؤيدة لإسرائيل، وبعضها صهيوني داخل إسرائيل وأميركا، إلى انتقاد هذا القرار لما يمكن أن يلحقه من أضرار بالمصالح والأهداف الأميركية والإسرائيلية، إضافة إلى كونه ينم عن غباء مطبق وتطرف شديد جعل القوة العظمى الأميركية تتوسل القيادة الفلسطينية للقاء نائب الرئيس الأميركي.
لا يمكن الركون إلى كل ما سبق من حراك ومظاهرات إذا لم تتواصل المعركة حتى النهاية، فالانتصار لم يتحقق بعد مع أنه يلوح في الأفق، ما دام يفتقر إلى الرافعة الفلسطينية، التي وحدها يمكن أن ترفع سقف الموقف العربي والدولي إذا تطور الموقف أضعف الإيمان، كما يظهر بعدم عقد اجتماع قيادي فلسطيني حتى كتابة هذه السطور، وتبني على المعارضة الواسعة للقرار الأميركي، بما يصل إلى دفع إدارة ترامب إلى التراجع عن قرارها أو مواجهة العزلة، وتغيير قواعد اللعبة المعتمدة منذ انطلاق ما سمي زورًا وبهتانًا "عملية السلام"، وما هي بذلك، بل انتهت سريعًا إلى عملية من دون سلام، وظّفتها إسرائيل للتغطية على تنفيذ مخططاتها الرامية، خطوة خطوة أو بالجملة في النهاية، إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإقامة "إسرائيل الكبرى" على حساب أرض فلسطين وتشريد شعبها، لكي تكون الدولة المهيمنة على المنطقة برمتها بعد تقسيم الدول القائمة إلى دويلات طائفية تحارب بعضها، وكلها تنشد الدعم والحماية من إسرائيل .
إن شرطَ إفشال المخططات الأميركية والإسرائيلية بلورةُ موقف فلسطيني يرتقي إلى مستوى التحدي والخطر، وينسجم مع مصلحة الشعب الفلسطيني وإرادته اللتين عبرتا عن نفسيهما في الموجة الانتفاضية المندلعة لليوم السادس على التوالي، والمرشحة للاستمرار، وربما للتصاعد إلى انتفاضة شاملة، إذا توفرت شروطها، على ألّا تنتهي إلا بدحر الاحتلال وتجسيد الدولة، وصولًا إلى تحقيق بقية أهداف الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة كمرحلة على طريق تحقيق الحل التاريخي الجذري.
من أهم شروط تواصل الموجة الانتفاضية وتحولها إلى انتفاضة اقتناعُ القيادة، بنفسها أو مكرهة، بأهمية المقاومة والانتفاضة ومراجعة التجربة، والتخلي عن الرهان على أميركا والمفاوضات، وإمكانيات التغيير في إسرائيل من داخلها إذا واصل الفلسطينيون إبداء التنازلات وحسن النية وإثبات الجدارة في بناء المؤسسات، التي تقوم على توفير الأمن للاحتلال كطريق لإقناع إسرائيل بالموافقة على إقامة دولة على حدود 67، أو ضمنها.
لقد أدت هذه السياسة إلى عكس المأمول منها، لذا لا يكفي قرار عدم اللقاء بنائب الرئيس الأميركي أثناء زيارته القادمة إلى المنطقة على أهميته، ولا اعتبار الإدارة الأميركية بأنها لم تعد وسيطًا وأخرجت نفسها (أو تقريبًا أخرجت نفسها كما صرح الرئيس) من العملية السياسية، مع استمرار التمسك بها، وكأن المشكلة كانت فقط في الرعاية الأميركية لها. إنها عملية مختلة الأركان كليًا لم تستند إلى موازين قوى تسمح بتسوية عادلة أو متوازنة، ولم تعتمد إطارًا دوليًا فاعلًا، إذ كانت الأمم المتحدة مجرد طرف من أطراف أربعة لعبت جميعها دور شاهد الزور، ولم تكن مرجعيتها القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وإنما ما يتفق عليه الطرفان، ما جعل إسرائيل تتحكم بها كونها الدولة المحتلة القوية المدعومة من الراعي والوسيط الأميركي الذي لم يكن وسيطًا ولا نزيهًا في السابق في مرحلة الانحياز الأميركي التاريخي لإسرائيل، فكيف في مرحلة انتقال إدارة ترامب إلى لعب دور الشريك الكامل للاحتلال والاستيطان والعدوان والعنصرية؟!
كان ولا يزال ممكنًا وضع خطة متدحرجة ومتوازية تنطلق من التعامل مع المواقف المطروحة عربيًا ودوليًا، والسعي لتطويرها بشكل جدي. يمكن أن تشمل عرض مشروع قرار في مجلس الأمن لا يكتفي برفض الخطوة الأميركية، وإنما يطالب بالتراجع عنها، وإذا استخدمت واشنطن الفيتو ضد مشروع القرار يمكن الانتقال إلى تقديم شكوى على أساس البند السادس من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح بمحاكمة أميركا لانتهاكها القانون الدولي ومع حرمانها من حقها لأنها ستكون متهمة من استخدام حقها بالفيتو.
في نفس الوقت على القيادة الفلسطينية المسارعة إلى عقد اجتماع بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي، يفضل في قطاع غزة أو في القاهرة، وبلورة رؤية شاملة تفتح الطريق لمسار جديد يركز على تغيير موازين القوى من خلال اعتماد مختلف أشكال العمل السياسي والكفاحي، بما فيها المقاطعة والمقاومة التي يجب أن تركز على الأشكال الشعبية السلمية، إضافة إلى وضع برنامج يجسد القواسم المشتركة ويسعى لتجسيد شراكة حقيقية من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة وفاق وطني حقيقية لتجسيد الدولة، وعقد مجلس وطني توحيدي، والذهاب بعد ذلك إلى إجراء انتخابات المجلس الوطني حيثما يمكن ذلك، وانتخابات عامة رئاسية وتشريعية للدولة وليس لسلطة أوسلو، لأن هذه السلطة المقيدة بقيود مجحفة لا بد من تغيير طبيعتها وشكلها ووظائفها والتزاماتها وليس حلها التزامًا بقرارات المجلس المركزي المتخذة في آذار 2015، وخصوصًا بعد أن تجاوزت إسرائيل التزاماتها منذ زمن طويل، وبعد حصول دولة فلسطين على الاعتراف الدولي.
أمام القيادة والقوى والشعب فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني، وبناء بدائل عن المسارات التي اعتمدت حتى الآن، وإذا تصرفت القيادة على أساس عدم وجود بدائل عليها أن تتنحى، لأن البدائل تُبنى بالقناعة والإرادة ولا تهبط من السماء. ومن لديه شعب مثل الشعب الفلسطيني الذي يناضل منذ 100 عام: هبة وراء هبة، وثورة وراء ثورة، وانتفاضة وراء انتفاضة؛ لا يمكن أن يكون بلا بدائل، شرط أن يكون رهانه على الشعب، وليس على الآخرين والأوهام والرهانات الخاسرة.
إذا كانت الانتفاضة لم تنطلق وتأخذ شكل الموجات لأسباب عدة، منها عدم إيمان القيادة بها، ولغياب الأمل بالنصر بعد الخيبات المتلاحقة، وتآكل الفصائل، واتساع الهوة ما بين الشعب والقيادة، وعدم وضوح المشروع الوطني، وغياب المؤسسة الجامعة وأشكال النضال المتفق عليها، وبسبب البنية السياسية والإقتصادية والأمنية والثقافية التي وجدت في ظل الاحتلال والانقسام ومن مصلحتها بقاء الحال على ما هو عليه ... فالمطلوب توظيفها لتحقيق إنجازات والعمل إذا أمكن على توفير متطلباتها، لأن الانتفاضة المنظمة ومحددة الأهداف القابلة للتحقيق هي الوحيدة الكفيلة بشق طريق الخلاص الوطني ... طريق الانتصار .
بقلم/ هاني المصري