وأنا أخط هذه السطور سألت نفسي و قد تجاوزت سنين عمري الأربعين ببضع سنين، وأرضي محتلة تماما، كم كلمة عبرية تعرف يا هذا؟ وكم حرفا عبريا يمكنك أن تقرأ؟الإجابة أخجلتني من نفسي، وفي نفس الوقت لا بد من نظرة أوسع من الجانب الشخصي:لماذا بعد كل هذه السنين لم تكن اللغة العبرية ضمن المنهاج المدرسي، أو مساقا إجباريا في الجامعات؟وسواء كان خيارنا سلميا أو حربيا مع القوم فإن الإلمام بلغتهم أمر ضروري؛ لماذا حرصنا على تعلم اللغة الإنجليزية منذ المرحلة الأساسية الابتدائية، وجعلناها مادة ومساقا إجباريا في جامعاتنا واللغة العبرية ظلت اختيارية على الأقل في أكبر جامعتين فلسطينيتين مثلا لا حصرا:النجاح-حيث درست- وبيرزيت؟أعرف الأجوبة الكلاسيكية حول ضرورة تعلم اللغة الإنجليزية، ولكن لماذا عدونا المحتل، حرص على تعليم اللغتين الإنجليزية والعربية(لغة عدوه) معا، مع أن تأسيسه ودعمه كان وما زال من الناطقين بالإنجليزية؟إن معرفة اللغة التي ينطق ويكتب بها عدوك أمر ضروري للغاية، وثمة تقصير في هذا الأمر.
نعلم أن عددا من الأسرى قد تعلموا اللغة العبرية في السجون، وأتقنوها بدرجات مختلفة، تتراوح بين القدرة على التحدث بها بطلاقة، وكتابة أبحاث ودراسات باستخدامها، وبين معرفة الحديث ببعض الجمل والمصطلحات فقط، وبعض هؤلاء علموا غيرهم، ونعلم أن العمال في الداخل بحكم وضعهم، قد أتقنوا سماعيا ما يستطيعون به التعامل أو الحد الأدنى من التفاهم باستخدامها.
أما أبناء شعبنا في الداخل المحتل (مناطق 48) فهم بحكم الواقع يتعلمون اللغة العبرية منهجيا...وأقول أن كل الأنماط المذكورة وغيرها فيما يخص تعلم وتعليم اللغة العبرية ظلت قاصرة عموما ولم تتمكن من تكوين بنية معرفية علمية عن العدو، وهذا أمر محزن ومخجل صراحة.
أما على صعيد الترجمة فهي متواضعة مقارنة مع الظرف الموضوعي لنا نحن الواقعين تحت الاحتلال؛ فالمفترض أن هناك مراكز ترجمة خاصة بالأدب العبري تنقله إلى العربية مزودا بالتعليقات والآراء والملاحظات، وهناك مراكز متخصصة لترجمة الإنتاج الخاص بالجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية؛ ومع أن هناك ترجمة أنا أشكر وأقدر جهود القائمين عليها ولكنها لا تتناسب مع ظرفنا ومع المدى الزمني، فهناك كتب نقرأ عنها هي مهمة لمعرفة نمط تفكير العدو لم تترجم بعد، وحين تجد طريقها إلى الترجمة، بعد وقت ثمين لمعرفة محتواها، تكون هناك قائمة كتب أخرى تنتظر، لا يفقه ما في سطورها إلا المهتم الملم باللغة العبرية فقط!
ربما اللغة ومعرفتها هي جانب مركزي لتقصيرنا في معرفة من يغتصب أرضنا ويهوّد مقدساتنا، وفي الجعبة جوانب أخرى في التقصير الواضح في معرفة العدو بعد هذه العقود، والذي يقابله معرفة هذا العدو الواسعة بتفصيلات مجتمعاتنا المختلفة.
ولو أننا عرفنا عنهم ما يكفي لعرفنا كيف نقاتلهم بنجاح، أو نفاوضهم ونسالمهم بنجاح كذلك، ولكن عموما نحن أمام عدو يعرف عنا كل شيء، بل نحن أمامهم في حالة انكشاف معلوماتي هائل، ولعل من دلالات هذا الجهل على تقصيرنا، هو تقديراتنا غير الدقيقة عموما لخطواتهم وسياساتهم حتى بعد أن تبدأ، بناء على أمنيات أو سوء تقدير مرده بالطبع جهل كبير بنمط تفكيرهم؛ فيخرج المحلل سين، أو الخبير صاد ويطلق أحكاما من قبيل:سيفعلون كذا، وسيمتنعون عن كذا، وسيتراجعون عن كذا، ويمكنكم مراجعة المراحل السابقة القريبة والبعيدة، وكيف قرأناها وبماذا خرجنا، وحتى الدراما-إلا أقل القليل منها-دوما تقدم لنا اليهودي فقط من يقلب حرف الحاء إلى خاء، والبلطجي والأبله بطريقة تنم عن سذاجة أو ضحالة تفكير القائمين على تلكم الأعمال الدرامية العربية.
وقد نجد تبريرا لهذا التقصير الواضح والنتيجة المتواضعة والمحصلة الفقيرة في كم ونوع المعلومات عن العدو بطبيعة المجتمع الصهيوني؛ فهو مجتمع يعيش هوس الأمن، ومنغلق على ذاته، ولا يقدم معلومات بسهولة، ويحتاط لكل شيء، وتركيبته تختلف عنا بحكم الهوس الأمني الشديد، وكونه مجتمع مهاجرين من شتى أصقاع الأرض، وبالتالي فهو مختلف في تركيبته كليا عن الروابط التي تربط مجتمعنا، وعلى سبيل المثال حين تسأل شخصا منهم عن جاره القريب ينكر معرفته، كما أن الغموض الممزوج بإجراءت أمنية مبالغ فيها يحيط بتجمعاتهم السكنية ومؤسساتهم، بالطبع هذا صحيح، ولكن إرادة المعرفة غير موجودة، لما هو متاح ومكشوف ومعلن أصلا، فكيف بما هو مغلق؟
بعد 70 سنة من النكبة نرى ضحالة في الفهم والمعرفة لأناس أدركوا أن عليهم معرفتنا بطريقة التصوير الطبقي وأكثر، بينما نحن لم ندرك ضرورة معرفتهم، وإن أدرك بعضنا لم يتقن الكيفية، وإن أتقنها لم تكن فائدة مما عرف نعمل بها حربا أو سلما...وأقول هذا وصفا للصورة العامة، غير مقلل من بعض الحالات.
أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي، فهل نغير من حالة اللامبالاة والعجز والكسل لمعرفة منهجية علمية لعدونا، بحيث نراه كما هو فعلا لا كما نتمنى ولا كما نحب أو نكره، لا تقتصر على النخبة، بل تتكامل فيها الجهود وتتراكم ويتم الاستفادة من كل من لديه ما ينفع ويزيد الوعاء شبه الفارغ من معلومات تهمنا كمّا ونوعا عن كيان ومجتمع نجح في بناء منظومة معلوماتية هائلة عنا يستخدمها في خططه وسياساته ضدنا؟
أرجو أن تكون الأمنيات واقعا وحقائق ملموسة.
بقلم/ سري سمّور