فلسطين ما بين الدولة والثورة ...!

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

تعقيدات القضية الفلسطينية التي لم يدركها الكثيرون، لأسباب متعددة، تتداخل فيها العوامل المتباينة، العامة والخاصة، الإقليمية والدولية، الوطنية والقومية، الدينية والمدنية، وهيَّ تكمن في قدرة الشعب الفلسطيني على إبقاء قضيته حية وساخنة، رغم مرور قرن كامل على بدء تنفيذ المخطط الجهنمي لإستعمار وإستيطان فلسطين وشطبها من الخريطة السياسية، وإكمال إنجاح المشروع الصهيوني، وقدرة القيادة الفلسطينية في مختلف المراحل التي مرَّت بها القضية الفلسطينية على إبقاء جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة وحائلة دون تمكن قوى العدوان الإستعماري الصهيوني من إطفاءها، هذا التناغم بين حيوية الشعب الفلسطيني مع قيادته في مختلف المراحل، مَكَّنَ الشعب الفلسطيني من إستمرار حالة الصمود من جهة، وحال دون إكمال المشروع الصهيوني لتحقيق هدفه بإخلاء فلسطين من شعبها، وإتمام حلمه بإقامة دولة النقاء الديني اليهودي الصهيوني من جهة أخرى، وأبقى مفاعيل الأبعاد المختلفة للقضية الفلسطينية، المساحة الكافية لتفاعلها الدائم على كل المستويات.

ثورات وإنتفاضات الشعب الفلسطيني المتتالية من عشرينات القرن الماضي وإلى اليوم في إنتفاضة القدس في وجه صفعة العصر الأمريكية الترامبية، وإثارة الغضب الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي، ستبقى شاهداً على الفشل الذريع الذي ينتظر الكيان الصهيوني ويحول دون إتمام مشروعه العنصري وفشل القوى الإستعمارية الداعمة له والتي تقف على رأسها الولايات المتحدة برئاسة ترامب ونائبه مايك بنس الإنجيلي التلمودي الذي لا يقل صهيونية عن غلاة اليهود الصهاينة المتطرفين، بل أكثر منهم تطرفاً وإقتناعاً بضرورة إكمال المشروع الصهيوني لإعتقادات لاهوتية خاصة بطائفة الإنجيليين الصحويين التي ينتسب إليها، والتي تمثل الكتلة التصويتية الأكبر الكامنة خلف نجاح الرئيس ترامب بالإنتخابات الرئاسية التي كان يدغدغ فيها عواطفها أثناء حملته الإنتخابية بتنفيذ وعده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والإعتراف بها عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، دون إعتباره لأية أبعاد أو ردود فعل قد تنجم عن هذا الإجراء، وبالفعل وحرصاً منه على إبقاء هذه الكتلة كقاعدة شعبية له تسنده في إستمرار ولايته المهددة بالإنقطاع، ولضمان إمكانية إنتخابه لدورة رئاسية أخرى في عام 2020م، أقدم الرئيس ترامب على تنفيذ وعوده الإنتخابية في هذا الشأن تحقيقاً لهذه الغايات الخاصة، ضارباً بعرض الحائط بكل ما يمكن أن يحدثه هذا القرار وهذا الموقف من ردود فعل محلية ودولية، ودون حساب لإنعكاسها على الولايات المتحدة ودورها في الشرق الأوسط، مقدماً مصالحه الشخصية البحتة على مصالح الولايات المتحدة، وعلى الأمن والسلام في الشرق الأوسط، لقد أنهى هذا القرار والموقف أي دور مستقبلي للولايات المتحدة في إقرار الأمن والسلام وصناعة المفاوضات والتسويات بشأن الصراع العربي الإسرائيلي وبشأن القضية الفلسطينية، والأساس في ذلك هو حيوية الشعب الفلسطيني وقدرته على رفض هذه المواقف وعدم التسليم بها وتناغم القيادة الفلسطينية مع صلابة الموقف الشعبي الفلسطيني والتمسك بثوابت المشروع الوطني الفلسطيني، وفضح سياسات الكيان الصهيوني ودور الولايات المتحدة المساند والمؤيد لها، وهنا برز دور القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس أبو مازن وبكل براعة القيادة كرجل دولة ورجل ثورة في آن واحد معاً، وهذه القدرة لا يستطيع أن يتمتع بها إلا القائد الخبير والمحنك، والذي يعرف متى يستخدم أوراقه وأدواته في تحقيق غاياته وغايات شعبه، مفعلاً كافة الأبعاد المتداخلة والمتفاعلة مع قضيته وقضية شعبه، وهذه البراعة والحنكة التي تمتع بها الرئيس أبو مازن ومعه القيادة الفلسطينية، تسقط إدعاءات المرجفين الذين طالما رددوا عبارات سخيفة لا تعكس إلا ما يكنوه من سوء للشعب الفلسطيني وقيادته وقضيته، بتحميلهم القيادة الفلسطينية مسؤولية إضاعة الفرص وإطالة أمد المعاناة الفلسطينية، بل يزيد بعضهم في التطاول على الشعب الفلسطيني وعلى قيادته وتشكيكهم في وعي الشعب الفلسطيني ووعي قيادته وإعتبارهم أن القضية الفلسطينية قضية عادلة وينقصها شعب واع وقيادة ناجحة.

إن الشعب الفلسطيني لو لم يكن على درجة عالية من الوعي، وقيادته على درجة عالية من الحنكة والقدرة والمسؤولية لانتهت القضية الفلسطينية وطمست حقوق الشعب الفلسطيني منذ عقود، ويتجلى ذلك بهذا الموقف الصلب الذي يقفه الشعب الفلسطيني وقيادته في وجه الموقف الأمريكي الصهيوني المزدوج من موضوع القدس، ليؤكد أن قضيته عصية على الإندثار، وأن فلسطين الشعب والقيادة هي الرقم الصعب في الصراع العربي الإسرائيلي، ويمتلكا معاً مفتاح السلم والحرب في المنطقة، فلا سلام ولا أمان في المنطقة دون الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإنهاء الإحتلال لأراضيه وللأراضي العربية الأخرى، وضمان حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، ففي الوقت الذي يواصل فيه الشعب الفلسطيني بناء مؤسساته الوطنية يواصل أيضاً خوض المواجهة على الأرض في مواجهة الإجراءات الصهيونية في القدس وغيرها في الأراضي المحتلة من خلال مقاومته الشعبية المتصاعدة يوماً بعد يوم، كما يخوض المواجهة على كل المستويات السياسية والقانونية إقليمياً ودولياً، عربياً وإسلامياً، في معركة فرض الوجود وإنتزاع الإعتراف بحقوقه المشروعة.

إن الشعب الفلسطيني يمارس اليوم حقه الطبيعي في بناء الدولة، كما حقه الطبيعي في مواصلة المقاومة بكل أشكالها، فالشعب الفلسطيني اليوم يعيش في مرحلة ما بين الدولة والثورة، وهذه تحتاج إلى جهود مضاعفة وحركة دؤوبة بدءاً من تجسيد الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى تفعيل كافة عناصر القوة التي تمكنه من إنتزاع حقوقه وإنجاز مشروعه الوطني، وهنا يتجلى دور القيادة القادرة على مواءمة عمل الدولة وواجبات المقاومة، وهذا ما ظهر جلياً في خطاب الرئيس أبو مازن أمام القمة الإسلامية الطارئة في إستنبول، والذي كان معبراً خير تعبير عن هذه الصورة وعن هذه الحالة التي يختص بها الشعب الفلسطيني وقضيته، والتي تفترض الإستعداد الكامل لدى الشعب الفلسطيني وقيادته على خوض غمار هذه المرحلة، وتفترض ما تقتضيه من دعم الأشقاء والأصدقاء حتى يتم دحر المشروع الصهيوني وإنجاز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس