بداية لا بد من القول بأن العرب والمسلمين لا يصابون بعوارض الرجولة والفحولة إلا عندما يتعلق الأمر بإعلان حرب أو التجند والتداعي والتناخي لتدمير دولة عربية،ولم يعد لا الأمن القومي العربي خط احمر ولا فلسطين ولا القدس،بل من الواضح بان ما هو خط احمر للكثير من البلدان العربية،هو اسرائيل،وكيفية حمايتها والدفاع عن امنها،والمؤسف أن تكون عناوين مواقع صحفية ووكالات انباء،بأن اسطنبول تنتصر للقدس،فقمة اسطنبول لم تختلف عن قمة وزراء الخارجية العربية،إلا في تصعيد لهجة الخطاب والشعار والتهديد والوعيد،والتكرار الممل للإنشاء والإسطوانات المشروخة،والدعوات للبحث عن عضوية هنا او هناك في المؤسسات الدولية،وكأن هذه المؤسسات ستخرج "البير من الزير"، ونحن ندرك جميعاً انها على مدار مئة عام منذ وعد بلفور وحتى اللحظة،لم تترجم أي من قرارتها الى فعل على أرض الواقع،بل بقيت حبر مقيد على مستندات مقيدة،وبالتدقيق في قمة اسطنبول،القمة التي عقدت لنصرة القدس،نجد ان الحضور الاسيوي والأفريقي لها،كان متقدماً جداً على الحضور العربي،حتى ان الرئيس الفنزويلي مادروا،الرئيس المنتمي لقضايا شعبه والشعوب المقهورة والمظلومة،والذي يعاني كما يعاني الشعب الفلسطيني،من المؤامرات الأمريكية والتدخل في الشؤون الداخلية لبلده بشكل وقح وفظ،جاء من أقصى اصقاع الأرض لنصرة فلسطين والقدس،في حين نجد أن من يفترض ان يكونوا الأحرص على قضية القدس،من ذارفي دموع التماسيح عليها،هم جزء من المؤامرة عليها،قد غابوا عنها،فقضية بحجم القدس يغيب عنها رئيس لجنة القدس الملك المغربي محمد السادس،وكذلك يغيب عنها زعامات ما يسمى بالمحور السني العربي،الحلف العربي المتدثر بالعباءة الأمريكية،والذي هو وريث وامتداد لنهج السادات المهزوم بأن 99% من أرواق اللعبة بيد امريكا،هذا الحلف،عندما ارتضى في القمة العربية – الإسلامية – الأمريكية التي عقدت في الرياض،العشرين من أيار الماضي،أن تصطف الأمة العربية - الإسلامية خلف إمامة ترامب لها،وتجزل له العطايا وتمنحه مئات المليارات من المال السعودي والعربي المنهوب من قوت ودم الشعوب العربية،مواقفها وتخاذلها هي التي لعبت دوراً في جعل ترامب يقدم على قراره بإعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال.
خطاب الرئيس الفلسطيني عباس،لا اعتقد بانه سيشكل انقلابا في المشهد السياسي الفلسطيني،ولم يحدث حالة من القطع مع المرحلة السابقة،أوسلو والمترتبات عليها،وإن غلب على خطابه لهجة التحدي والتهديد بالقول بان أمريكا ليست راعية للسلام،وقطع كل أشكال الاتصالات معها،فالرئيس عباس اعتقد انه وقف في منتصف الطريق،بين الإنتفاضة المشتعلة في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة،وبين المؤتمرين في اسطنبول،ويحسب له انه رفض السير في صفقة القرن،تلك الصفقة التي تشتمل على تصفية القضية الفلسطينية،من خلال إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة وسيناء،بعد تاهيلها وجعلها منطقة تجارية وسياحية،وضم مناطق حكم ذاتي لها من الضفة،والتي ستبتلع اغلبها المستوطنات،والقدس تكون عاصمة لدولة الاحتلال،وقبول أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية،وبدون لف او دوران هذا العرض والتهديد كان من ولي عهد السعودية محمد بن سلمان رجل إسرائيل وأمريكا الأول في المنطقة،عندما جرى استدعاء الرئيس الفلسطيني الى الرياض.
القمة لم تتطرق الى فرض عقوبات اقتصادية او تجارية على أمريكا،او سحب الودائع والأموال العربية والإسلامية من بنكوها ومؤسساتها المصرفية،أو الإستعاضة عن الدولار في تعاملاتها التجارية بعملة أخرى،او اغلاق سفاراتها في البلدان العربية والإسلامية ،سفارة مقابل سفارة،كذلك لم يجر الحديث عن اغلاق سفارات إسرائيل وممثليتها التجارية والإقتصادية في البلدان العربية والإسلامية التي لها علاقات دبلوماسية ومعاهدات واتفاقيات مع اسرائيل،مصر،الأردن وتركيا،ورغم اللغة الحادة التي استخدمها أردوغان في خطابه،ووصف إسرائيل بانه دولة إرهاب وإحتلال،ولكن من غير المتوقع ان ينفذ تهديداته بقطع علاقاته مع إسرائيل،فهذا جزء من "الببروغندا" لتزعم العالم الإسلامي،حيث ان التبادل التجاري بين إسرائيل وتركيا يزداد ارتفاعاً.
الرئيس الفلسطيني دعا الدول العربية والإسلامية الى سحب الإعتراف بإسرائيل،دون ان يقدم هو كصاحب القضية الأولى على هذه الخطوة،او الغاء اتفاق أوسلو،مكتفياً بالتلويح بالغائه،وكذلك عمد الى وقف كل اشكال التنسيق والإتصال مع دولة الاحتلال،والجماهير المعيار العملي لها وعندها،هو التطبيق وليس التصريح واللغة النارية،فهناك قرارات وتصريحات سابقة،من اعلى هرم في المنظمة لم يجر تنفيذها وتطبيقها،التنسيق الأمني مثالاً.
لا اعرف من أين جاؤوا لنا بمصطلح الوسيط "النزيه"،وهذا شبيه بالمصطلح الذي جاؤوا لنا به،لوضع العصي في دواليب دوران المصالحة "التمكين"،ونحن جميعاً ندرك بأن أمريكا من زمن "أهل الكهف" منحازة تاريخيا الى جانب دولة الاحتلال،هي والدول الإستعمارية الغربية الأخرى،حاضنة إسرائيل ومظلتها وحاميتها في المؤسسات الدولية من أي عقوبات او قرارات قد تفرض عليها او تتخذ بحقها،نتيجة خرقها الفاضح للقانون الدولي،بل تعمل عل استمرار بقائها فوق القانون الدولي،وأظن ما قالته المتصهينة المتطرفة،مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة "نيكي هايلي"،عندما قالت:- بان زمن تقريع إسرائيل في الأمم المتحدة قد ولى،وزادت على ذلك بانها بحذائها ذو الكعب العالي،ستضرب به وجوه العربان الفاقدة للكرامة والرجولة،ولذلك أمريكا ليست بالوسيط النزيه،بل تاريخياً منحازة الى جانب دولة الاحتلال،وبقرار ترامب بالإعتراف بالقدس عاصمة لدولة الإحتلال،إنتقلت هذه الإدارة نحو المشاركة في العدوان المباشر على شعبنا الفلسطيني وامتنا العربية الإسلامية،ولذلك البحث عن وسيط نزيه عند الأروربين،يعني بأننا سنبداً الدوران حول الحلقة المفرغة من جديد،وبالأمس التقينا كهيئة عمل وطني واهلي في القدس بالممثل الأعلى لروسيا الإتحادية لدى السلطة الفلسطينية الدكتور حيدر أغانين،قال بالحرف الواحد "أنتم تدفعون ثمن قبولكم بالتفرد الأمريكي برعاية المفاوضات"،ولذلك خيار البحث عن وسيط جديد " نزيه"،اعتقد انه في ظل تعنت وسطوة أمريكا على المؤسسات الدولية،سيكون شيكات بلا رصيد،بدون ان تدفع أمريكا ثمن قرارها هذا وأية قرارات أخرى،فدهاليز المؤسسات الدولية وقراراتها لا يعول عليها في نصرة الحق الفلسطيني،هي مجربة كثيراً ونتائجها تكاد تقارب الصفر المئوي،وهي ليست بالعامل الحاسم في قضية الحقوق الوطنية.
وقرار خطير اخر تمخضت عنه القمة،وربما يلتقي مع موقف وقرار ترامب،هو اعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية،دون ذكر بانها تشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967،وبما يجعل أبو ديس هي العاصمة،وكذلك إقرار بأن القدس الغربية عاصمة لدولة الاحتلال،على الرغم من ان قرار التقسيم الذي صدر في 2911/1947،نص على ان القدس دولية.
وبعد هذه النتائج المتمخضة عن هذه القمة وقبلها قمة وزراء الخارجية العربية،والتي لم ترتق في قراراتها الى نبض الشارع المقدسي والفلسطيني والعربي والإسلامي،لا بد من القول بان العامل الحاسم في كسب هذه المعركة،هي تصعيد النضال الشعبي والجماهيري على طول وعرض ساحات فلسطين والعالمين العربي والإسلامي والعالمي،ويجب ان تكون القيادة الفلسطينية رأس الحربة في هذا النضال،وكذلك يجب ان تعمل القيادة على البحث عن فتح مسارات بديلة،من اجل احداث تعديل وتغيير متدرج في ميزان القوى،مستخدمة كل أشكال النضال السياسي الكفاحي،بما في ذلك المقاومة والمقاطعة،وهذا يتطلب المباشرة الجدية والعملية بخطوات تنهي الإنقسام وتستعيد الوحدة الوطنية،بعيدا عن مماحكات التمكين وعدم التمكين،وعبر رسم رؤيا واستراتيجية موحدتين،وفق برنامج توافق وطني جرى الإتفاق عليه،دولة فلسطينية مستقلة على كامل حدود الرابع من حزيران /1967 ،مع ضمان حق العودة لشعبنا الفلسطيني وفق القرار الأممي (194)،وكذلك لا بد من الخروج من تحت عباءة المحور العربي- الأمريكي،وتوثيق وتدعيم العلاقات مع محور المقاومة،فهو سيشكل حاجز صد ومانع قوي أمام أية مشاريع تصفوية،قد تفرض على الشعب الفلسطيني،وكذلك سيقوي من عوامل الصمود والثبات الفلسطيني،في مواجهة المشروع الأمر صهيوني.
بقلم/ راسم عبيدات