وحدة الموقف والقرار العربي الحل لإفشال المؤامرة

بقلم: عصام يوسف

توفر التجارب السياسية التاريخية لدول المنطقة مرجعية غنية يمكن من خلالها فهم أنماط الأداء السياسي، وطرق التعاطي مع الخطوط الحمراء، إضافة لوضع الخطوط العريضة التي من شأنها تحديد الثوابت بهدف الحفاظ عليها وحمايتها من أن تكون ورقة للعب بدلاً من خلق أوراق اللعب السياسي وتوظيفها لصون الثوابت.

تفاعلات القضية الفلسطينية على مدى عشرات السنوات أسهمت في تحديد شكل الثوابت التي من المفترض أن يقوم على أساسها نمط التفكير السياسي لمختلف الحكومات والكيانات السياسية العربية، وبالتالي تحديد شكل الأداء السياسي المستند إلى القدرة على تمييز الثوابت والمسلّمات، ووضع إطارات ومساحات تحدد مجالات الحراك السياسي.

وتستمد هذه الثوابت مفاهيمها من معتقدات وثقافة وتراث الشعوب العربية، المفضي أساساً إلى أشكال الوعي الجمعي المشارك في تكوين الهوية الاجتماعية والسياسية والثقافية للمواطن العربي، التي تضع بدورها إطاراً موحداً للكينونة يمكنه استيعاب كافة الهويات الفرعية الفكرية.

تحت هذه المفاهيم يمكن عنونة محددات الثوابت للهوية العربية في عناوين عدة من أهمها الوحدة في إطارها الثقافي والاجتماعي، حتى مع تعذر وفشل مشاريع الوحدة السياسية الشاملة على مر تاريخ المنطقة المعاصر.

وقد أثبتت المنعطفات السياسية الحادة التي مرت وتمر بها المنطقة أهمية الحفاظ على قرار سياسي موحد تجاه القضايا المصيرية، ما دفع بالكيانات السياسية العربية التي تشكلت بعد الاستقلال إلى التفكير في بناء مؤسسات وحدوية تعمل على توحيد قرارهم السياسي، وجمع كلمتهم، حيث كان من وراء تأسيس جامعة الدول العربية خدمة هذه الأهداف وغيرها، والعمل على تحقيقها.

ما يعني بأن توحيد القرار السياسي العربي كان وما زال حاجة ملحة أدركتها القيادات والحكومات العربية بشكل مبكر منذ عقود طويلة، ما أعطى هامشاً لتوحيد وجهات النظر منذ ذلك الحين أمام تحديات سياسية تستهدف النيل من مقدرات دول العالم العربي، وإرادتها السياسية، وحتى ثقافتها وهويتها.

إلا أن التحديات السياسية التي تعيشها المنطقة، تختلف باختلاف المرحلة السياسية وتعقيداتها وإفرازاتها، وقد باتت اليوم تشهد ضراوة مع اشتداد حالة الاستقطاب السياسي نتيجة عوامل سياسية مختلفة، أدت معها إلى حالة من ضبابية الرؤية تعيشها دول المنطقة، وذلك في ظل اختلاط الأوراق السياسية، وتغيّر أهداف وطموحات اللاعبين الإقليميين والدوليين.

ويعبّر قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأخير حول نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدسة كعاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، عن حالة الإرباك التي تعيشها الأقطار العربية في التعامل مع قضية بهذا الحجم تتعرض بشكل مباشر لثوابت السياسة العربية، وتمس كيان ووجود الأمة، وليس فقط حقوق الشعب الفلسطيني.

ويظهر ذلك في طبيعة وشكل ردود الأفعال حيال القرار الأمريكي، التي تبدو معه دول بعينها تتصدر مشهد التصدي للقرار الجائر، بمواقف تؤكد التزاماً واضحاً بالدفاع عن قضية القدس باعتبارها أحد القضايا المصيرية للأمة، بينما لم تكن الردود لدول أخرى بحجم الكارثة أو الأزمة التي افتعلها ترمب، والتي سيكون لها تداعياتها العميقة على مستقبل المنطقة وشعوبها.

يحدث ذلك في وقت تحتاج فيه الأمة إلى توحيد صفوفها أكثر من أي وقت مضى، سيما وأن السهام التي سددت لها هذه المرة قد أصابت القلب، القدس، قلب الأمة، ورمز هويتها وعقيدتها وإنسانيتها وحضارتها، على حد سواء.

ومع أن الأمر يبدو في تفاصيله أكثر تعقيداً مما نطرحه في سطورنا هذه، مع ما تعيشه عدد من الدول العربية من مآسٍ وكوارث إنسانية نتيجة ما تعانيه من اضطراب سياسي وأمني كاليمن وسوريا وليبيا والعراق، إلا أن وحدة القرار السياسي تجاه القضايا المصيرية هو "الكلمة المفتاحية" للوضع الحالي.

وقد كانت رسالة الجماهير التي خرجت، ولا تزال، إلى الساحات للتعبير عن رفضها للقرار الأمريكي موجهة للقيادات والحكومات العربية بأن وحدتها من أجل التصدي للمؤامرة سيكون هو الحل، كما أنه سيلبي تطلعات الجماهير في توظيف إمكانات دول المنطقة لإفشال المخطط "الصهيوأمريكي".

ولا يضاهي مشهد خروج شعوب الدول التي تطحنها الحروب والاضطرابات كاليمن وسوريا، لمشاركة إخوانهم في باقي الدول ساحات الاحتجاج، بهاءً وسمواً أي مشهد آخر، خاصةً وأنهم يرسلون بدورهم الرسالة الأكثر وضوحاً بأن اشتداد المعاناة مهما بلغت، واختلاف وجهات النظر مهما كانت، ليس لها أن تبدّل المفاهيم حول ثوابت الأمة، أو أن تجعل البوصلة السياسية تحيد عن أهدافها الإستراتيجية.

من هذه المنطلقات، بات على دول المنطقة أن تعيد حساباتها، وتقرأ تاريخها بتمعن، وأن لا تفتش عن تحالفات منعزلة تعتقد بكونها بديلاً عن توحيد صفوفها في وجه المؤامرة التي تستهدف كينونتها، بدءً من تحقيق الحلم الصهيوني في تأسيس دولة تمتد من الفرات إلى النيل، ووصولاً إلى تفتيت دولها وإضعافها وسلب قرارها السياسي، ومن ثم السيطرة على مقدراتها واستعباد شعوبها، حين تصبح دولة الاحتلال المحور والمركز الوحيد في المنطقة، يتحكم في مستقبلها ومصير شعوبها.

وفي سبيل وحدة القرار السياسي العربي، لا بد من تسوية العديد من القضايا في هذه المرحلة الحرجة، من أهمها: أولاً: تحقيق المصالحة الخليجية، على أساس نبذ الخلافات، وتغليب المصلحة الوطنية والقومية، فقوة الصف الخليجي ووحدته يمثل القوة للصف العربي برمته، ولا تزال كلمات ومواقف الملك فيصل بن عبد العزيز الهادفة لجمع كلمة الأمة من أجل استرداد حقوقها في فلسطين، وإعادة الاعتبار والكرامة لها، تصدح في مسامع كل عربي شريف وغيور على مصالح أمته وعزتها، بل ليس لإنسان حر وشريف أن ينسى مبادرته إلى استخدام سلاح النفط لتدعيم نضال الأمة في حربها التحريرية.

ثانيا: تحديد الخيارات الإستراتيجية للأمة من خلال بناء جبهة سياسية موحدة تخاطب الولايات المتحدة والغرب بصوت واحد يعبر عن موقف راسخ وثابت وقوي، يدعو للتوقف عن العبث بمصير المنطقة وشعوبها، والتأكيد على المجتمع الدولي بمخاطبة العالم العربي كجسد واحد وكيان واحد، له احترامه وصفته الاعتبارية وثقله الاقتصادي والسياسي في العالم، له كامل السيادة على أراضيه، ولا يقبل التفريط بحقوق شعوبه.

ثالثاً: التعجيل في إنجاز ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية، وإنهاء كافة الملفات العالقة بشكل فوري، وتوحيد الخط الوطني النضالي، وتفعيل المقاومة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة لتفعيل وإذكاء جذوة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، مع اتخاذ السلطة الوطنية الفلسطينية إجراءات عاجلة بوقف كافة أشكال التنسيق الأمني والتواصل مع سلطات الاحتلال بشكل نهائي وتام، والعمل على التواصل مع مكونات المجتمع الدولي الرافضة للقرار الأمريكي من أجل حشد كافة الجهود والطاقات للضغط على الإدارة الأمريكية لإلغاء قرار العار.

رابعاً: دعم وتشجيع الفعاليات والتظاهرات التي انطلقت في المدن العربية والإسلامية، والعواصم والمدن الدولية، منذ إعلان ترمب عن قراره المشؤوم، ومباركة هذه الفعاليات التي تعبر عن نضج ووعي إنساني، وإرادة حرة وحية لدى المتظاهرين، والعمل على إعطائها الزخم الأكبر لزيادة فاعليتها حتى إفشال القرار الأمريكي.

خامساً: توحيد كافة القوى السياسية على اختلاف معتقداتها ومشاربها الفكرية، من إسلامية وقومية ويسارية..وغيرها، في تحالف مشترك، قادر على قيادة الجماهير في الوطن العربي, وتوجيهها من أجل تحقيق غايات التصدي للمؤامرات الخارجية، وتفويت الفرصة على تمرير السياسات الرامية لفرقة الأمة والاستفراد بمكوناتها السياسية، وبالتالي التحكم في مصير دولها.

أمام حالة التهافت الدولي والإقليمي الحاد تجاه المنطقة، باتت وحدة الموقف والقرار السياسي العربي من الأهمية بمكان لغايات حفظ الأوطان وصونها من التفتيت والاستهداف، وكذلك لحماية المقدسات والمقدرات والثروات، فضلاً عن حماية الهوية والثقافة والحضارة من الغزو والمؤامرة "الصهيوأمريكية"، لا سيما مع تبني الإدارة الأمريكية منذ سنين سياسة "الفوضى الخلاقة" التي تهدف لتدمير الكيانات السياسية، وتقزيم الدول ذات الدور المحوري، وتقسيم المجتمعات العربية، وإشغالها بحروب داخلية كما هو الحال في العراق وسوريا واليمن وليبيا، بإسناد من قوى إقليمية لديها مشاريع ومطامع ومطامح قومية على حساب دول المنطقة، ومصالح شعوبها.

وقد عانت الدول السالفة الذكر عملية تدمير منهجي لهيكلياتها السياسية والإدارية، كما طال التدمير حالة التآلف المجتمعي، بعد أن أوجد نوعاً من الفرز الطائفي والمذهبي أو العرقي أو القبلي، أو المناطقي، بهدف خلق نوع من تهتك النسيج المجتمعي، لا يمكن إصلاحه بسهولة، لضمان عدم نهوض هذه المجتمعات، واستئنافها للعب دورها الوطني والقومي والإنساني والحضاري، كما عهدناها في السابق.

وكانت للمتآمرين أدواتهم في تنفيذ المهمة، حيث لا يخفى على أحد ما أشاعته الآلة العسكرية الأمريكية، والمليشيات التابعة لها كميلشيات شركة "بلاك ووتر" الأمنية، وغيرها، من فوضى داخل المجتمع العراقي، حين استهدفت المواطنين الآمنين في مناطق معينة بدم بارد، كما أن ابتداع "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش" ليؤدي عدداً من الوظائف منها خلق الفرقة والاحتراب بين مكونات المجتمع، إضافة لتشويه صورة الدين الإسلامي السمح في أذهان أبناء المجتمع بل ولدى الرأي العام العالمي، كما أدى التنظيم المتطرف المختلق إلى تدمير البنى التحتية للدول المذكورة، وبشكل أكثر تركيزاً في العراق وسوريا، واستنزاف طاقاتها المادية والبشرية لدرجة تحتاج فيه هذه الدول إلى سنوات طويلة وموارد هائلة لعملية إعادة الإعمار، وترميم بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ولم تكن عملية تدمير الدول والمجتمعات بمقتصرة على ما سردنا من أهداف، بل كانت عملية إعادة تشكيل ورسم صورة الشرق الأوسط الجديد بحسب مخططات "الفوضى الخلاقة" تحويل الاهتمام عن القضية الفلسطينية، وجعلها مسألة هامشية أمام انشغال الشعوب المنكوبة بالحروب والفوضى والاضطراب السياسي والأمني، حيث أتاح ذلك لدولة الاحتلال إطلاق يدها في تغيير الوقائع على الأرض من تنفيذ غير مسبوق لمخططات الاستيطان في الضفة الغربية والقدس المحتلة، إضافة لتنفيذ مخططات تهويد المدينة المقدسة، وغيرها من الممارسات والسياسات التي تستحيل معها إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967.

وغياب الدول العربية التي تعيش حروباً داخلية طاحنة، وانقساماً مجتمعياً، وأوضاعاً أمنية وسياسية غير مستقرة، يعد غياباً للجسد العربي القوي المعافى، الذي يمتلك المناعة الكافية للوقوف في وجه التحديات، والقادر على الصمود في وجه تمرير المخططات التدميرية التي تستهدف الجسد والروح معاً، وبالتالي فإن الأمة اليوم في أمس الحاجة لإنهاء الصراعات في دولنا العربية صاحبة الدور الهام والمحوري، والتي كان لها إسهامات حقيقية في تاريخ العرب المعاصر في تمكين الأمة، والشد من عضدها، وإمدادها بعناصر القوة والثبات.

لذا، فإن توحيد هذه المجتمعات من جديد، وإنهاء حالة الانقسام المجتمعي، وإعادة الوئام لها، عبر مصالحة سياسية ومجتمعية، تعيدها مجدداً إلى سكة العمل العربي المشترك، ودعم القضية الفلسطينية الفاعل والحقيقي، لتكون مداداً لأشقائها من أبناء الشعب الفلسطيني ولأمتها، يعتبر من أولويات تحقيق وحدة الموقف والقرار العربي إزاء القضايا المفصلية في تاريخ الأمة.

كما أن إنهاء الشعوب الشقيقة حالة الانقسام والتدمير الذاتي يعد بالدرجة الأولى حاجة إنسانية وأخلاقية، تحقن الدماء، وتوقف هذا النزف الذي يدمي قلب كل فلسطيني وعربي، فنفض غبار الحرب عن كاهلها سيكون انتصاراً للأمة ولحضارتها، وقطعاً ليد التآمر الصهيوأمريكية، ولنا في التاريخ عبرة حين أحكم الصليبيون قبضتهم على أوطاننا خلال قرون خلت، لتهون معها الأمة خلال تلك الفترة من تاريخها، وتضعف أركانها، حتى مجيء القائد صلاح الدين الأيوبي الذي وحدها، ودك قلاع الغزو واحدة تلو الأخرى، لينجز أخيراً مشروع التحرير بعدما أحيى العزيمة في نفوس أبناء الأمة، ووضع أقدامهم على طريق الوحدة والعزة، والخلاص من المحتل الغازي.

ويأتي إعلان الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية لها، كحلقة ضمن مسلسل تصفية القضية الفلسطينية، خاصةً وأن هذه الخطوة لم تكن لتتم لولا الانشغال العربي عن فلسطين التي لم تخل خطابات الساسة العرب يوماً من اعتبارها قضيتهم المركزية.

ليس لأحد القدرة على التنبؤ بما تحمله الفترة المقبلة للقضية الفلسطينية ولمستقبل الأمة العربية، وقد تكون غالبية السيناريوهات ذات صبغة تشاؤمية تملأ الفضاء بما يكفي من غبار اليأس والإحباط لما هو قادم، ولكن سيرورة الحياة، والإيمان بقدرة الخالق وأقداره تؤكد لنا بأن دورة الحياة تخبئ الكثير من حلوها ومرها، وأن الأخذ بالأسباب والنتائج يحتاج منا إلى دراية واسعة بمجريات التاريخ كي نستطيع فهم حاضرنا واستشراف مستقبلنا الذي لن نستطيع صياغته بشكل انفرادي، بل متوحدين في القرار والإرادة استناداً لمعطيات التاريخ، ففي وحدتنا قوتنا ونهضتنا وعزتنا كأمة واحدة منيعة وحصينة أمام المعتدين والمتآمرين.

بقلم/ د. عصام يوسف