شاركت للتو في المؤتمر الأوروبي الرابع للتضامن مع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في مدينة "لاهاي" الهولندية لبحث كيفية تدويل مأساة أكثر من ستة آلاف وأربعمئة أسير فلسطيني، من بينهم 314 طفلا و18 امرأة.
وقد شارك في المؤتمر عدد من الناشطين الأوروبيين وأعضاء برلمانات ومحامون وممثلو المجتمع المدني وأبناء الجاليات العربية والفلسطينية من نحو 15 بلدا. وقد طلب مني أن أقدم ورقة حول القانون الدولي ومعاملة أسرى الحرب، وما إذا كان ذلك ينطبق على الفلسطينيين الذين يخضعون للاعتقال في سجون إسرائيل، سواء من مر بمحاكمة وصدرت بحقهم أحكام تعسفية، أو من رموا في غياهب السجون تحت مسمى الاعتقالات الإدارية، وهل ممارسات إسرائيل بحق الأسرى الفلسطينيين تعتبر جرائم حرب يمكن جرجرتها للمحكمة الجنائية الدولية.
ونتيجة لأهمية الموضوع وقلة البحوث فيه، فسأحاول أن أقدم ملخصا لورقة طويلة تناولت فيها كثيرا من الوثائق والاتفاقيات والقرارات، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة عام 1949 التي هي محصلة لاتفاقيات تتعلق بأخلاقيات الحروب وكانت بداياتها في مدينة لاهاي نفسها عام 1899 ثم عدلت عام 1907 وروجعت في جنيف علم 1929 للاستفادة من تجربة الحرب العالمية الأولى، ثم روجعت مرة أخرى وعدلت ودخلت حيز النفاذ عام 1949 بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك جاءت تلك الاتفاقية المهمة حصيلة تجربة طويلة تتعلق بقواعد ومسلكيات الحرب ومعاملة المدنيين، الذين وقعوا تحت سيطرة قوات محتلة، بدون أن يكون لهم دور في تلك الحرب.
هل الفلسطينيون يشكلون شعبا مميزا
الجواب بكل بساطة نعم حسب القانون الدولي. فهناك رقعة جغرافية معترف بها رسميا من قبل "عصبة الأمم" اسمها فلسطين، صنفت من الفئة "ألف"، أي أنها كانت مؤهلة للاستقلال بعد فترة قصيرة، لأن لديها كافة مؤسسات وبنى الدولة وشعبا مستقرا ذا ملامح متقاربة ثقافيا وتاريخيا ونفسيا ودينيا. سميت الدولة الواقعة تحت الانتداب البريطاني فلسطين وعملتها الجنيه الفلسطيني ولغتها العربية، وكانت البنى التحتية تكاد تكاد متكاملة، من مطارات ومحطات قطار وطرق ومدارس وبلديات عاملة وتجارة خارجية ومصانع صغيرة ومتوسطة، زادت عن الثلاثة آلاف، حسب كتابي رشيد الخالدي ومحمد مصلح عن الهوية الفلسطينية.
وقد اعترفت الجمعية العامة في قرارها 3236 (1974) بأن الشعب الفلسطيني له حقوق غير قابلة للتصرف، وعلى رأسها حقه في تقرير المصير وحق العودة إلى دياره وأراضيه التي طرد منها، كما نص على ذلك قرار 194 (1948) وحقه في إقامة دولته المستقله تحت القيادة التي يختارها هو، وهي "منظمة التحرير الفلسطينية" وحقه كذلك في مقاومة الاحتلال بما يتلاءم مع بنود الميثاق.
وقد تتابعت سلسلة القرارات الدولية التي تتعامل مع الشعب الفلسطيني كشعب ذي شخصية ثقافية وتاريخية مستقلة. وقد حسمت الجدل محكمة العدل الدولية بتاريخ 9 يوليو 2004 وأصدرت رأيها القانوني حول الجدار العازل، لكنها فصلت في موضوع الشعب الفلسطيني، وأقرت بأنه شعب مميز له الحق الكامل في ممارسة "حق تقرير المصير"، وأن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة هي أراض محتلة منذ عام 1967، وتعود ملكيتها للشعب الفلسطيني. وقد تعامل المجتمع الدولي مع هذه الحقيقة الثابتة، خاصة بعد إعلان الفلسطينيين عام 1988 الاستقلال، حيث اعترفت بهم أكثر من 86 دولة وتبادلت معهم التمثيل الدبلوماسي، ثم أقر مجلس الأمن في قراره 1515 (2003) الذي اعتمد بالإجماع بحل الدولتين. وجاءت الجمعية العامة عام 2012 واعترفت بالدولة الفلسطينية بغالبية 138 دولة ووضع هذه الدولة في الأمم المتحدة بصفة "مراقب" مثل سويسرا قبل عام 2002 ودولة الفاتيكان حاليا، لا يغير الوضع في كونها دولة من الناحية القانونية تحتضن شعبا مميزا.
المدنيون تحت الاحتلال- اتفاقية جنيف الرابعة
تنص اتفاقية جنيف الرابعة (1949) على أن الأطراف السامية المتعاقدة، وفي حالة قيام نزاع مسلح يلتزم كل طرف في النزاع بحماية "الأشخاص الذين لا يشتركون في الأعمال العدائية، ممن يجدون أنفسهم، وتحت أي ظرف من الظروف، وفي لحظة ما تحت الاحتلال، وهم ليسوا رعايا الدولة القائمة على الاحتلال، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم أو العاجزون عن القتال بسبب مرض أو جرح أو احتجاز أو لأي سبب آخر". وقد لا نحتاج إلى عناء كي نرى أن الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما فيها القدس وقطاع غزة، وجدوا أنفسهم في لحظة ما بدون أن يكون لهم يد واقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1967.
إذن كل المدنيين في هذه المناطق يصبحون مشمولين بالحماية حسب بنود الاتفاقية. ويجوز للقوة القائمة بالاحتلال أن تنقل بعض المواطنين بشكل مؤقت ولأسباب عملياتية لأماكن أكثر أمنا، أو مناطق حماية واستشفاء متفق عليها مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. هذا يعني أن جميع سكان الأراضي التي وقعت تحت الاحتلال عام 1967 أثناء عمليات عسكرية بين القوات الإسرائيلية من جهة والقوات الأردنية والمصرية من جهة أخرى، يصبحون مشمولين بالحماية التي توفرها الاتفاقية.
وقد نصت قرارات الشرعية الدولية على عدم شرعية الاستيلاء على الأراضي بالقوة المسلحة، وضرورة الانسحاب من الأرض التي احتلت في الصراع الأخير، كما جاء في القرار 242 (1967). وبما أن إسرائيل لم تنسحب ولم تعلن قبولها بالقرار 242 أصبح وجودها في الأراضي المحتلة غير شرعي، وفي حالة انتهاك متواصل للقانون الدولي، ويصبح السكان الخاضعين للاحتلال محميين بموجب اتفاقية جنيف الرابعة. وكون إسرائيل تعطي تفسيرات مغايرة للاحتلال، أو تعريفات للأرض الواقعة تحت الاحتلال، وإعطائها أسماء من عندها (يهودا والسامرة) أو تعريف الشعب الذي وقع تحت الاحتلال بأنهم سكان "فقط"، ليست ذات قيمة بموجب القانون الدولي، وتصبح تصرفات الدولة القائمة على الاحتلال باحتجاز المدنيين ونقل سكان من رعايا دولة الاحتلال إلى المناطق المحتلة، وإغلاق مؤسسات السكان وإقامة منشآت في الأرض المحتلة والاستيلاء على الأراضي وهدم البيوت وتغيير المعالم الثقافية والاقتصادية والدينية وغير ذلك، انتهاكا لاتفاقية جنيف الرابعة.
وقد قامت السلطة الفلسطينية رسميا بالطلب من الجمعية العامة أن تقدم تفسيرا لاتفاقية جنيف الرابعة، ومدى انطباقها على الأرض الفلسطينية المحتلة. وقد أقرت الجمعية العامة القرار 10/4 بتاريخ 13 نوفمبر 1997 (115 صوتا مقابل صوتين ضد، هما إسرائيل والولايات المتحدة) والذي طلب من الحكومة السويسرية بصفتها الدولة المودعة لديها الاتفاقية بالطلب من الأطراف المتعاقدة، تقديم توضيح قانوني لمدى انطباق الاتفاقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد استعانت الحكومة السويسرية بمجموعة خبراء عقدوا عدة اجتماعات وأصدروا فتوى مطولة حول انطباق الاتفاقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وينص البند 1.3 من الرأي القانوني للخبراء على ما يلي: "تبقى اتفاقية جنيف الرابعة قابلة للتطبيق في جميع أراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وبالتالي تظل إسرائيل مسؤولة عن أعمالها ما دامت تقوم بأعمال الحكومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذه المسؤولية تشمل الأعمال التي تقوم بها السلطة الفلسطينية بالإكراه من قبل إسرائيل، ما يشكل انتهاكات للاتفاقية". وتضيف لجنة الخبراء أن انطباق الاتفاقية غير قابل للمفاوضات أو المساومة.
حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بالمقاومة من أجل حق تقرير المصير
إذن، ما دام الشعب الفلسطيني يشكل شعبا مميزا وله كافة حقوق الشعوب، ووقع جزء منه تحت الاحتلال، وطلب من دولة الاحتلال الانسحاب إلى ما وراء خطوط القتال ورفضت وأصبحت في حالة انتهاك للقانون الدولي، ثم طلب منها أن تحترم اتفاقية جنيف الرابعة في معاملة المدنيين ورفضت هذا الانطباق، وقامت الأطراف المتعاقدة أو من ينوب عنهم بالتأكيد بانطباق الاتفاقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، تصبح إذن إسرائيل في حالة انتهاك للاتفاقية. ويصبح من حق السكان الواقعين تحت الاحتلال مقاومة الاحتلال، بما لا يشكل انتهاكا للميثاق، كما نص على ذلك القرار 1514 لعام 1960 (د – 15) الصادر عن الجمعية العامة تحت مسمى :"إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، أو الواقعة تحت الاحتلال، والمنطلق من تفسير الميثاق في بنده (أ) من المادة 13، الذي ينص على أن "إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل إنكارا لحقوق الإنسان الأساسية، وأن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ويجب أن يوضع حد لجميع أنواع الأعمال المسلحة أو التدابير القمعية الموجهة ضد الشعوب المستعمرة".
بناء عليه، فإن كافة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال غير الشرعي، ضمن ضوابط الميثاق، يمارسون عملا مشروعا وتنطبق عليهم بنود الاتفاقيات الدولية ذات الاختصاص، بما فيها اتفاقية جنيف الثالثة والرابعة. وعليه فإن إسرائيل في حالة انتهاك متواصل وصريح للقانون الدولي ويمكن جرها إلى محكمة الجنايات الدولية لارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في معاملة المدنيين الواقعين تحت الاحتلال بمن فيهم الأسرى والمعتقلون.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي