قبل أن أبدأ مقالتي هذه، أود الإشارة إلى أن البعض طلبوا مني بأن انظر إلى النصف المملوء من الكوب، وبأن أُقَدِرُ حساسية المرحلة ، وأن لا أدخل في نقد كاسح لمنظومة محمود عباس، بالرغم من يقينهم بأن ما أتحدث فيه لا غبار عليه، وأن الحقيقة باتت واضحة لهم، وبأن الأخير يدعي بطولة ليس فيه، لذلك اعتذر لهؤلاء، لأنه ببساطة لم يكن يوماً يستهويني الصمت على باطل بحجة مبررات واهية ومجربة والنتيجة دائما كانت الخذلان بدون أدنى شك.
من هنا أبدأ مقالي هذا بدون تحاملٍ أو مجاملة ، بل بوضع الحقائق أمام القارئ كما هي ، والتي أستهلها بقرار الأمم المتحدة الأخير الذي قدمت مشروعه تركيا واليمن باسم المجموعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي من خلال جلسة طارئة ويحمل رقم "A/ES-10/L.22" ، وكانت قد صوَّتَت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء الخميس 21 ديسمبر/كانون الأول 2017، بأغلبية 128 صوتا لصالح القرار، الذي يطالب الجميع بعدم تغيير طابع مدينة القدس الشريف أو مركزها أو تركيبتها الديموغرافية، ويؤكد على أن أي قرار ينص على ذلك هو لاغٍ وباطل وليس له أي أثر قانوني، مما اعتبره البعض صفعة لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
مثل هذا الأمر حصل من قبل أيضاً ، وذلك عندما أقرّ الكنيسيت الإسرائيلي في " 3 يوليو سنة 1980" قانون أساس ينص على أن القدس عاصمة إسرائيل" ، وهذا الأمر جعل إعلان القدس بالحدود التي رسمتها الحكومة الإسرائيلية عام 1967 مبدأً دستوريًا في القانون الإسرائيلي.
لذلك رد مجلس الأمن في حينه على ذاك الأمر بقرارين واضحين هما ، رقم 476 ورقم 478 سنة 1980 ، حيث وجه اللوم من خلالهما إلى إسرائيل بسبب إقرار ذلك القانون ، وأكد بما لا لبس فيه، أنه يخالف القانون الدولي، وليس من شأنه أن يمنع استمرار سريان اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 على الجزء الشرقي من القدس، ومع ذلك توسعت إسرائيل وفرضت أمر واقع ، وأصبحت قوة تتطور في مجال المياه والزراعة والتكنولوجيا والفضاء حتى حصلت مؤخراً على قرار أمريكي يعطيها الحق بالقدس كعاصمة موحدة لها ، في حين بقي الفلسطينيين على حالهم يعتاشون على الصدقات والمساعدات الدولية وتقمعهم أذرع منظومة ديكتاتورية حطمت أحلامهم وجوعت أطفالهم وداست على كرامتهم.
لذلك فإنني أنظر إلى الأمور بواقعية ومن زوايا مختلفة تبحث في النتائج وليس في الشكليات كما يريد الآخرين، فلو نظرنا مثلاً للدول التي غابت عن جلسة التصويت الأخيرة سنجدها 21 دولة، كما امتنعت 35 دولة أخرى عن التصويت، وعارضت القرار نفسه تسع دول ، أي أن الدول التي لم تساند القرار عملياً هي 65 دولة من إجمالي الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة وهذا بحد ذاته يعتبر إخفاقاً صارخاً وفاضحاً للدبلوماسية الفلسطينية التي أهدرت ملايين الدولارات على السفر هنا وهناك بدون اي فائدة تُذكَر ، وهذه نتيجة واضحة كنتائج أخرى من قبل أكثر وضوحاً منها ، تتحدث عن هذا الفشل وهذا الإخفاق ، وتستدعي على أقل تقدير إقالة وزير الخارجية رياض المالكي وتحويله للتحقيق.
أيضاً ، هنا وبعيداً عن العواطف أستطيع تفهم أسباب أن خمس دول مثل توغو وميكرونيسيا وناورو وبالاو وجزر مارشال بالإضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة قامت بالتصويت ضد هذا القرار، ولكني لا أستطيع تفهم دول مثل غواتيمالا وهندوراس أن تصوت ضد هذا القرار!.
كما أنه من البلدان الـ35 التي امتنعت عن التصويت هناك دول هامة جداً مثل الأرجنتين وأستراليا وكندا وكرواتيا والتشيك والمجر ولاتفيا والمكسيك والفلبين ورومانيا ورواندا بعضها يعترف عملياً بدولة فلسطين، وبهذا الموقف الجديد لهذه الدول فهي تعبر بذلك صراحةً عن أنه لم تعد ملتزمة بقرار اعترافها بدولة فلسطين، إلا إذا كان موقفها هذا نابعاً من تذمرها من حالة التراخي واحتجاجها على الفوقية الفارغة التي تسلكها الدبلوماسية الفلسطينية اتجاه مثل هذه الدول!.
أما أوكرانيا الدولة التي أيدت مشروع القرار الأخير في مجلس الأمن الذي سبق هذا القرار بأيامٍ عدة، فهي تغيبت ضمن 21 بلداً أخراً تغيب عن جلسة التصويت المذكورة بسبب فشل الدبلوماسية الفلسطينية بإقناعها بضرورة مشاركتها والتصويت لصالح القرار.
هنا مربط الفرس ، بالرغم من أنني بالمقابل لا أستطيع أن أقلل من أهمية تصويت كلٍ من المانيا وفرنسا وبريطانيا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى التي حافظت على موقفها الثابت اتجاه مثل هذه القضايا الحساسة التي تهم السلام العالمي، مثل الدنمارك وهولاندا وإسبانيا والبرتغال والنمسا ولوكسمبورغ والنرويج والسويد وبلجيكا وفنلندا وأيسلندا وإيرلندا وإيطاليا وسويسرا والنرويج، هذا بالإضافة إلى كل من روسيا والصين واليابان، والهند التي لم تغير من موقفها الثابت بالرغم من علاقات الحزب الحاكم فيها الاستراتيجية مع إسرائيل.
لكن بمقابل ذلك أيضاً، كان هناك خسارة مدوية لأصوات دول أخرى مثل الأرجنتين وجزر سليمان وغينيا الاستوائية والفلبين وبنين وبوتان وتوفالو وجامايكا ونيكاراجوا وهندوراس، وهي الدول التي صوتت لصالح القرار 19 / 67 ، الذي نجم عنه الاعتراف بفلسطين على حدود عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية دولة غير عضو في الأمم المتحدة وذلك يوم 29 / 11 / 2012، أما اليوم وفي هذه الحالة صوتت بعضها ضد قرار القدس الأخير ، وبعضها امتنعت عن التصويت وبعضها تغيب ولم يشارك في هذا التصويت، ولذلك في المحصلة كانت جميعها أصوات مفقودة وغير داعمة لهذا القرار.
لذلك هذا يفتح الباب أمام تساؤل مهم جداً ، وهو اين النجاح الذي يحاول الجانب الفلسطيني تسويقه للشعب الفلسطيني، حول هذا القرار، والحقيقة ساطعة مثل الشمس، وتقول بأن الصفعة لم تكن للجانب الأمريكي فقط بل كانت قوية أيضاً للجانب الفلسطيني عندما تقلص عدد الذين صوتوا لصالح قرار الاعتراف بدولة فلسطين كدولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة في نوفمبر 2012 وذلك من 138 دولة إلى 128 دولة صوتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدعو واشنطن إلى سحب قرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهذا بحد ذاته يمثل أيضاً إخفاقاً دبلوماسياً خطيراً للغاية!.
هنا لابد من الإشارة أيضاً إلى أن كلا القرارين المذكورين أعلاه غير ملزمين وجاءا بعد فشل مجلس الأمن بإقرارهما ، وبالتالي فإن التصويت ب 128 صوت لصالح القرار الذي ينص على رفض قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن القدس والذي كان متوقعا ، لا يمثل في الواقع فارقا كبيرا في تحريك القضية، لا بل لن يتم تنفيذه ولن يتم إيقاف تنفيذ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
هذا بالرغم من أن أزمة القدس ليست وليدة اللحظة وإنما هي أزمة تمتد لعقود من الزمن، وطالما أن المجتمع الدولي عاجز عن حل الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية بشكل عادل ، لا يمكن أيضاً أن يتم فرض امر واقع فيها بسهولة، ولكن أيضاً من الصعوبة تحدي قرارات دولة عظمى لا زالت تتمتع بقوة القرار وتستطيع أن تستقطب الجميع إلى جانب قراراتها التي تريد فرضها، لذلك سنجد أن القرار الأخير في الجمعية العمومية مثله مثل القرارات الأخرى التي صدرت من قبل بشأن هذا الأمر ، ولن تكون ذو أهمية أو مُلزِمَة. طالما أن الطرف الضعيف فيها بكل مكوناته السياسية هو الجانب الفلسطيني المنقسم على نفسه.
لكن المثير جداً في هذه الأزمة أنه لم يكن ليجرؤ من قبل أي مسؤول عربي للتشاور حول مدينة القدس بدون ضمان الاتفاق على ما جاء في نصوص القرارات الدولية التي تنص صراحةً على حق الشعب الفلسطيني بدولة عاصمتها القدس الشرقية في حدود عام 1967 ، والتي أعطت الجانب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه العادلة، إلا أنه في عهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس اصبح سقف المطالب الفلسطينية أقل بكثير من الحد الأدنى المذكور أعلاه ، لذلك ليس مُستغرباً أن يجد هذا القرار أرضية خصبة لينمو فيها ويصدر بصرامة ويتحدى إرادة الشعوب ، وهذا لا يمكن أن يتم بعيداً عن تواطئ فلسطيني مفضوح تسلسل خلال السنوات العشر الماضية من خلال عدة سلوكيات همجية اعتمدت سياسة هدر الوقت وقتل الأمل وزرع الإحباط في نفوس الفلسطينيين حتى يقبل بهذا النتيجة كأمر واقع جديد ، كانت تتسارع خطى تنفيذها، وذلك من خلال بناء مستوطنات حول محيط مدينة القدس حتى تم عزلها بالكامل عن محيطها الفلسطيني.
نعم كانت القيادة الفلسطينية الحالية تُسَهِل هذا الأمر باحتراف وقدرة عالية على التنفيذ، وذلك من خلال كسر هيبة المواطن الفلسطيني وحصاره وتجويعه واقصاء الكفاءات من أبنائه ، وتطعيم المؤسسات الفلسطينية بالفاشلين والزعران والمرتزقة والذين لا يتمتعون بالكفاءة والقدرة على الإبداع والتعاطي مع المشكلات الداخلية التي تفاقمت وأثقلت كاهل المواطن الفلسطيني وأرهقته وجعلته مستكيناً ليس أمام ضياع القدس فقط، بل أمام المصيبة الأكبر التي تتمثل بجعله مؤهلاً بالكامل بالرغم من المكابرة التي يتحدث بها البعض، وذلك بقبول أي حلول قادمة مثل السلام الاقتصادي أو دولة غزة ولربما يكون المطروح مستقبلاً إن بقيت منظومة الرئيس محمود عباس وأذرعها الضالة والمضللة في الحكم ، اقل من ذلك بكثير.
هذا يأخذنا إلى عدة قضايا لابد من ذكرها على هامش هذا المقال للتأكيد على ما نقول ، وهو أن منظومة الرئيس محمود عباس التي أصابها الوهن والضعف وبدأت تتآكل من داخلها بسرعة رهيبة ، حتى بات المراقبين يرون بأن ما تبقى أمامها لا يتعدى اشهر قليلة ، فمثلاً ملأ أقطابها الدنيا صياح وأكاذيب من قبل حول نيتهم الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية وبالرغم من توفير مبلغ قيمته 5.7 مليون دولار لمتابعة هذا الأمر، إلا أن النتيجة بعد ما يقارب من ثلاث سنوات من بدء هذا الأمر، هي صفر بالمحصلة ولم يفتح أي ملف ولن يفتح مستقبلاً!.
كما أن منظومة الرئيس محمود عباس هددت بريطانيا بأنها ستقاضيها عن وعد بلفور وسترفع عليها قضية قانونية ، وتبين لاحقاً بأنها أضعف من أن تجرؤ على الإقدام على خطوة من هذا القبيل كما تحدثنا عن ذلك في مقال مفصل حول هذا الأمر في حينه وكنا الأكثر مصداقية وواقعية بطرحنا وهذا ما حصل، وبالتالي احتفلت بريطانيا بمرور مائة عام على هذا الوعد بدون أي معيقات أو حتى منغصات كما كان يُبَشِر المبشرين الأشاوس من منظومة محمود عباس.
أيضاً لو لاحظنا سلوكيات منظومة محمود عباس سنجدها تمثل انعكاس لتصرفات عجوز ديكتاتور يتمتع بفلسفة حكم الفرد كاملة، ويطبق ذلك من خلال أذرع ضالة ومضللة تبيع الوهم باحتراف من خلال نسج حلقات مسرحية ما بين الحين والآخر تخاطب عواطف الشارع الفلسطيني المتعطش لأي نتائج تنشله من وحل ما هو فيه ، سرعان ما يتبين بأنها كانت تهدف لحرق الوقت فقط وبدون أي مضمون ، حتى يتم تمرير ما هي متواطئة فيه، وقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي اتخذه بما يتناسب مع أجندته وما يراه يصب في صالح بلاده ، والرد الرسمي الفلسطيني الضعيف والمهلهل الذي اعتمد تنفيس غضب الشارع وسيلة للتغطية على تواطئه وتفريطه هو خير دليل على ذلك!.
هنا لا أنسى الإشارة إلى العبث اللغوي الذي تم التعاطي به مع وصف الدول التي صوتت ضد القرار الأممي الأخير حول القدس ، حيث ركزت هذه الإشارات على تقزيم شأن هذه الدول، والتحقير من مساحتها وعدد سكانها ، بدلاً من البحث عن كيفية وآلية جذبها مستقبلاً لتكون دول صديقة أو على الأقل محايدة وليس دول معادية.
أخيراً لابد من التوضيح إلى أن رمزية القدس لا يمكن أن ينهيها تواطؤ أو قرار أو حتى فصل مسرحي لاستكمال مسرحية طال انتظار نهايتها ، لأن القدس تمثل مدينة السلام ومدينة لها رمزية خاصة تورث الحب والتعايش والسلام بين الشعوب ولا يجب أن تورث الكراهية والصراع ، للأجيال القادمة ، والعبث بها له نتائج وخيمة ومدمرة ، وبالتالي وبالرغم من أن هذا قرار الجمعية العامة هو قرار غير ملزم إلا أنه سيبقى مثار جدل وما يثار حوله حاليا من منظومة الرئيس محمود عباس بالتحديد الذي ظهر في اجتماع اللجنة المركزية الأخيرة طاعناً في السن ومتوتراً ومتلعثماً، لا بل أنهى اجتماعه بخطأ اضطر لتوضيحه بعد ذلك ، خشية من تفسيره بطريقة أخرى عما كان يقصده ، هذا بالإضافة إلى قوله للمجتمعين حلوا عنا، مما يجعل ما يثار يعدّ إما بمنزلة “مسرحية” أو نوع من أنواع النضال الرمزي في حده الأدنى وعلى استحياء خشية من غضب الشارع الفلسطيني، وكل هذا في النهاية لن يغير شيئا على الأرض وستبقى حلقات المسلسل المشبوه القائم تسير بخطواتٍ ثابتة من خلال الأذرع الضالة والمضللة التي تحمي مصالحها وحماية منظومة عجوز ديكتاتور، إلى حين أن يُقَدِرُ الله أمراً كان مفعولا!.
م . زهير الشاعر