قبل ان يشدو الشاعر محمود درويش بقصائده، كانت له في مستهل الاحتفال كلمة نثرية قال فيها:
من هنا، بدأ حصار بيروت قبل عشرين عاما. وهنا، سال الدم اللبناني والفلسطيني دفاعا عن بيروت التي لم تستسلم لمصير طروادة. وقريبا من هنا، ارتكب الغزاة احدى المجازر الكبرى في هذا العصر. وقريبا من هنا، على رصيف الميناء، سُئل ياسر عرفات: الى أين أنت ذاهب؟ فأجاب بما بدا لنا مجازا شعريا: أنا ذاهب من هنا الى… فلسطين.
في تلك الأيام الرمادية، حيث اختلط المأساوي بالبطولي والشيء بعكسه، لم يصدق أحد احدا، لأن الأمل كان راقدا تحت الانقاض مثخنا بالجراح.
والآن، بعد عشرين عاما، نرى الى بيروت وقد نهضت من الرماد، واستعادت قوامها ونظامها، ووحدتها الوطنية. ونرى الى جنوب لبنان وقد حررته المقاومة من الاحتلال. ونرى الى قلبنا الجماعي، فلسطين، وهي تخوض بلحمها ودمها الفصل الدموي الأخير من ملحمة الاستقلال.
الآن، تتجلى ثقافة المقاومة فعلا بطوليا، فعلا يجعل الخارق عاديا. الآن يحمل كل عربي قلبا فلسطينيا. الآن كلنا فلسطينيون من غير سوء. لقد عادت فلسطين الى مكانها الصحيح. فالشعب الفلسطيني يقاتل على أرضه دفاعا عن مستقبله على أرضه. الأرض هي الجسد والجسد هو الأرض. والطريق الى فلسطين لا يمر إلا من فلسطين. والزمان الصحيح في المكان الصحيح.
كل شيء تغير، وارواح شهداء صبرا وشاتيلا شاركت أبطال مخيم جنين مقاومتهم التي لقَّنت الاسطورة درس التواضع. وياسر عرفات، المحاصَر في مكتبه لا في منفاه هذه المرة، هو الذي يفاوض المستقبل على شروط تغيير الحاضر، حيا شهيدا وشهيدا حيا. والشعب الفلسطيني المضرّج بالدم والألم والأمل يعيد الى العرب بداهة الوعي بوحدة مصيرهم، ويحث البشرية على تحسس ضميرها الحي، الذي حاصرته الغطرسة الأميركية راعية الجرائم الإسرائيلية، والتي تسمي إرهاب الدولة دفاعا عن النفس، وتسمي مقاومة الإرهاب إرهابا.
كل شيء تغيَّر، إلا بطل الجريمة الذي ما زال هو هو باحثا عن الدم الفلسطيني. إذ، لم يجر تعديل على نص القتل، وعلى بلاغة القاتل. لقد ترقّى الجنرال الى سدة الحكم بالانتخاب الحر الباشر. وهكذا يأذن لنا زيف الديموقراطية الإسرائيلية بمساءلة المجتمع الإسرائيلي عن مسؤوليته الأخلاقية والسياسية: أهذا هو السلام الذي تنشدون؟ السلام القائم على أنقاض أهل الأرض؟ أهذه هي الحدود الآمنة التي تطلبون؟ الحدود التي لا تشير الى أي اثر من آثار الوجود… الوجود الفلسطيني؟
فليكن واضحا، واضحا، واضحا: لا سلام مع الاحتلال، ولا أمن مع الاحتلال، ولا حياة مع الاحتلال، ولا عملية سلام موازية لعملية الإبادة. ان الحق الفلسطيني واضح كالحقيقة الفلسطينية. ان آلامنا كبيرة، ولكن آمالنا أكبر. ومآسينا كثيرة، ولكن البطولة أكثر. سنخفي الكثير من الدمع اليوم، لنغسل به غدا أعلامنا الوطنية المبقَّعة بالدم. وسنحب الحياة لأننا أبناء الحياة حتى آخر لحظة. لقد اتصل مقاتل من مخيم جنين المحاصَر بصاحبه خارج المخيم قائلا: احكِ لي نكتة لأضحك قبل استشهادي. قال صاحبه: كيف تضحك وأنت على حافة الموت؟ فقال: لأني أحب الحياة، أريد ان اودعها ضاحكا.
إن شعبا يحب الحياة الى هذا الحد، لن تخذله الحياة، ولا بد له من ان ينتصر.