الفلسطينييون يتقدمون ببطء ولكنهم يبرطعون بحيوية في بطون الحيتان
لم تكن سهلة السنوات المنصرمة عشية انهيار وتفكيك الاتحاد السوفييتي وبعد أن أبلغ غورباتشوف وفداً لمنظمة التحرير الفلسطينية بأن الأعداد الكبيرة للمتعلمين الفلسطينيين خطراً يهدد إسرائيل ويرعبها وجاء بسط السيطرة المطلقة للأمريكان وتفردهم بصنع سياسة العالم ... لم تكن هذه السنوات سهلة الوقع على الشعب الفلسطيني وعلى الأرض الفلسطينية بحجرها وشجرها وبشرها !!!
منذ البيان الأول لانطلاقتهم المجيدة في الفاتح من 1965 ما زالت الأهداف التي حددها هذا البيان هي هي لم تتغيّر وإن تمرحلت ... كانت مختصرة في أربع كلمات فقط لاغير ، كل هـدف بكلمتين منها ... حـق العـودة هـدف ، وتقرير المصير هدف ... وساروا بهذين الهدفين متلازمين متوازيين يطرقون بهما قشرة حوت يبتلع الوطن وقشور حيتان أخرى أكبر وأعظم استولدته ودفعته ليبتلع وطننا ووقفت تحميه وتحقنه بكل أسباب الحياة ، وبقيت الطلائع المحمية من شعبنا الملتحم معها على هذا الحال تحملا خلاله ما تحملاه ( الطليعة والشعب ) من المعاناة والتضحيات حتى جاء غزو لبنان بدبابات الحوت الصهيوني المحمية بحيتان التواطؤ الغربي والصمت العربي وتخوض القوات المشتركة للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وعلى مدار ( 88 ) ثمانية وثمانون يوماً واحدة من أكبر وأهم المعارك في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني انتهت بتحقيق التوازن الاستراتيجي المعنوي خصوصاً بعد معركة المتحف ... هذه المعركة التي قذف فيها الكيان الصهيوني كل ما يملك من قوة نيران من البر والبحر والجو وعلى مدار ثلاثة أيام ثم يخرج بعدها ليقول إن دباباته تقدمت عشرة أمتار ... ورغم سعة المسرح لمن كان يريد من العرب أن يستثمر فيه بنتائج هذا الفوز الاستراتيجي إلا أنهم بدلاً من ذلك كانوا قد تفاهموا مع كل الحيتان لإخراجنا من لبنان والذهاب إلى فاس 2 واضطر الفلسطينيون بعد كل الفؤوس التي نزلت على رؤوسهم للذهاب معهم إليه !!!
كان صدى الصمود أمام دبابات الغزو الصهيوني ومعركة المتحف عميقاً عند أهلنا في بطن الحوت الصهيوني ... وكان ردهم على هذا الصمود وعلى إخراج قوات الثورة من لبنان شامخاً وعميق المعاني هبّـات وراء هبّـأت توجـت بالانتفاضة الأولى ... وكالعـادة ما أن يكـاد الفلسطينييون يمسكون بإنجـاز كبير حتى تشتعل النار خلفهم وعلى جوانبهم فكانت حرب الخليج الأولى التي أكلت معظم ما أنتجه الزخم الدولي للانتفاضة الأولى ، وكان لا بـد من الحصاد لما تبقى من إنجازات الصمود في بيروت قبل أن تتلاقفه الحيتـان وطيور المتخاذلين ... فكان أوسلو بعلاّته وكانت التلبية لنـداء العبور إلى بطن الحـوت للالتحام بمن هم في جوفه من أهلنا (يرحمك الله يا فيصل الحسيني) ... ، وكان التقديم لهدف تقرير المصير ليسبق قليلاً توأمه حق العودة ... وهذا العبور على عـلاّته وهذا التلاحم مع أهلنا في الوطن المبلوع أثار الهمّـة في الكثير بقدر ما أثار من القلق واللّوعة في الكثير أيضاً ، وكانت عيون الغالبية على البوصلة للهدف الأساس لم يحرفوها ولم ينحرفوا عنها ... ولأن الهمّـة كانت بقـدر الرجال وبقدر الشهداء والأسرى والجرحى فقـد صنع هذا التلاحم كتلة تستعصي على الهضم تماماً كما تستعصي على التقيؤ أو الاستئصال ... وانتقل الجميع من ضرب قشور الحيتان إلى الضرب في أحشائها ... صحيح أنها كانت وما زالت ضربات أو وخزات ضعيفة ولكنها تؤلم وتهيئ لتفشي الوهن والتهالك للحوت أحشاءً وجسداً خصوصاً بعد أن كَبُرت هذه الكتلة وتحصّنت وأصبحت العلّة المزمنة التي لا تؤلم الحوت فقط ولكنها تنهش في أحشائه أيضاً !!!
اليوم ... وفي ذكرى الانطلاقة ورغم كل تعرّجات المسيرة وعقباتها ورغم كل المثبطات حولنا فإننا نتقدم ببطء ولكن إلى الأمـام وباتجاه ذات الأهداف ... صحيح أننا في بطون الحيتان ولكننا استعصينا على التهشيم والهضم ... نتحرك ونبرطع بحيوية عالية بين أحشائها وننهشها أيضاً ولن يطول زمن بقائنا فيها ... وسنخرج منها ، ولن يكون خروجنا من أفواهها ملفوظين كما خرج نبيّنا يونس ... بل سنخرج منها بعد تفتيت أحشائها واجسادها لنقول لكل الدنيا :
هنـا كنّـا قبلهـم ... وهنـا نحن بعدهم ، ومن هنـا مـرّت غـزوة ... وهـذه بقاياهـا
بقلم / حسني المشهور