ثلاثة وخمسون عاماً على انطلاقة الثورة الفلسطينية ، هذه الثورة التي انطلقت من رحم اللاجئين ، لتنتقل بقضيتهم من قضية إنسانية إلى قضية سياسية ، هذه الثورة الفلسطينية التي استطاعت حركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح " أن تصحح طريق أبناء شعبنا الذين تاهوا بعد النكبة في الأحزاب القومية والدينية والأممية فما وجدوا وطنيتهم فيها ، فكانت حركة " فتح " التي انسلخ مؤسسوها عن تلك الأحزاب ليؤسسوا حركة وطنية فلسطينية بمنطلقاتها وأهدافها وأسلوبها ، حركة حملت اسم الوطن وأهدافه ، هي حركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح " .
ويوم اطلقت حركة " فتح " رصاصة الانطلاقة ، كانت تعلم بوجود مجموعات فلسطينية تحمل السلاح ، وأنّ هذه المجموعات لم تكن بوارد عمل كفاحي منظم لإطلاق ثورة فلسطينية مسلحة ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين ، فكانت حركة " فتح " أول الرصاص لتعلن بلاغها العسكري الأول باسم القيادة العامة لقوات العاصفة ، الأول من كانون الثاني عام 1965 بداية تاريخ جديد لفلسطين ، وللقضية الفلسطينية ، وللشعب العربي الفلسطيني ، وقد راهن البعض الفلسطيني بأنّ حركة " فتح " لن تصدر بلاغها الحادي عشر ، لكن الإرادة والعزيمة والتصميم والإيمان بحق شعبنا في استرداد حقوقه جعله يخوض صراع الوجود ضد المشروع الاستعماري الصهيوني على أرض فلسطين ، مما جعل الثورة الفلسطينية تتجذر في صفوف شعبنا في مخيمات اللاجئين ، وتنتشر خلاياها وأجنحتها وقواعدها في المخيمات ، واستمرت الثورة بنضالها وكفاحها ضد الاحتلال الصهيوني لتصدر البلاغ الحادي عشر ، وتجتاز عامها الأول مؤكدة تنفيذ المزيد من العمليات الفدائية في عمق أرضنا الفلسطينية المحتلة .
نصف قرن ونيف مضت ، وحركة " فتح " تحافظ على مشروعها الوطني الفلسطيني النقيض للمشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين ، وقد تعرضت خلاله الثورة الفلسطينية وحــركة " فتح " ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى العديد من محاولات القضاء عليه ، فمن خطوط التماس مع أرض الوطن حيث خاضت العديد من المعارك دفاعاً عن وجودها ، انتشر مقاتلو الثورة في العديد من الدول العربية ، وتم تشديد الحصار عليها ميدانياً وسياسياً ومالياً ، فكانت معركة الوجود السياسي بانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني بدورته السابعة عشر في عمان بعد أن أراد البعض العربي والفلسطيني إنهاء وجود منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لكل أبناء شعبنا العربي الفلسطيني ، لكن حركة " فتح " حاملة المشروع الوطني وحاميته ، استطاعت أن تحمي مشروعها بأقل الخسائر الممكنة ، وأن تحافظ على وجود منظمة التحرير الفلسطينية وتحولها إلى كيان سياسي و وطن معنوي لشعبنا .
وفي ظل الظروف العربية والإقليمية بعد حروب الخليج ، وذهاب العرب إلى مؤتمر مدريد ، حيث استطاعت القيادة الفلسطينية بقيادة الشهيد الرمز أبو عمار ، أن تجعل فلسطين حاضرة في هذا المؤتمر ، رغم التآمر الذي جرى لتغييبها وعدم إشراكها فيه ، وقد وجدت حركة " فتح " أن قضيتنا الفلسطينية أمام خوض مستنقع آسن ، ولا بدّ لها من خوض هذا المستنقع بكل انعكاساته السلبية على حركة " فتح " ، وذلك من أجل المحافظة على وجود القضية الفلسطينية ، وإنّ حركة " فتح " قادرة على تحمل التلوث بهذا المستنقع ، على حين كان البعض الفلسطيني يرى هذا المشهد السياسي دون أن يكون فاعلاً فيه ، فآثر الطهارة على خوض هذه المعركة السياسية التي فـُرضت علينا ، فكان الدخول إلى أرض الوطن عبر حصان أوسلو ، والتي رأت فيه قيادة " فتح " أنها أمام طريقان لا ثالث لهما ، إمّا أن يؤدي اتفاق أوسلو إلى دولة فلسطينية مستقلة بحدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس ، أو أن يؤدي إلى مزيد من الحصار على قضيتنا وعلى شعبنا ، لأنّ " فتح " ومنذ انطلاقتها آمنت ، وما زالت تؤمن بأنّ طريق النضال الفلسطيني والتحرير والعودة ليس مفروشاً بالورود ، إنه طريق وعرٌ صعبٌ ، مليءٌ بالحفر والمطبات والحواجز والطرق الالتفافية .
لقد استطاعت حركة " فتح " أن تـُدِخل القضية الفلسطينية في المجتمع الدولي السياسي ، يوم وقف قائد الثورة الفلسطينية ، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الشهيد الرمز أبو عمار على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 13/11/1974 مخاطباً العالم ولأول مرة باسم الشعب العربي الفلسطيني ، مؤكداً على حقوق شعبنا في أرضه ، ومؤكداً على الاستمرار بالثورة لدحر الاحتلال عن أرض فلسطين ، مخاطباً العالم ، كما الحرب تندلع من فلسطين فإنّ السلام يبدأ في فلسطين ، وإننا نحمل بندقية الثائر بيد والغصن الأخضر بيد ، فيا أيها العالم لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدنا .
وفي ظل الظروف القائمة اليوم ، وبعيداً عن الحسابات الخاطئة بجر شعبنا إلى المربع الذي يسعى عدونا الصهيوني لنكون ضمن دائرة نيرانه ، استطاعت القيادة الفلسطينية برئاسة الأخ أبو مازن أن تخوض نضالاً سياسياً شرساً على الجبهة العالمية بهدف تثبيت حقوق شعبنا وعزل عدونا دولياً ، مؤكدين على أنّ البندقية لم تزل بيدنا لتحمي الغصن الأخضر الفلسطيني الذي نناضل لنغرسه سلاماً فلسطينياً في تراب وطننا الفلسطيني .
إنّ الانطلاقة تتجدد في كل يوم فعلاً ثورياً على كل جبهات النضال ، وكما كانت جبهة الكفاح المسلح جهداً كبيراً وتضحية جسيمة ، فإنّ الجبهة السياسية تتطلب مواجهة الأعداء وجهاً لوجه في المفاوضات المباشرة وغير المباشرة والمدعومة بالمقاومة الشعبيّة السلميّة في كل أرجاء الوطن ، هذا النضال السياسي الذي راكم العديد من القرارات الدولية تأكيداً على حقوق شعبنا ، بدءاً من حقنا في ممارسة تقرير المصير ، إلى رفض الاستيطان وجدار الفصل العنصري ، إلى التأكيد بعدم وجود أي أثر تاريخي لليهود في القدس ، كما التأكيد بأن كل إجراءات العدو الصهيوني على أرضنا الفلسطينية باطلة ، وما تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21/12/2017ببطلان وإلغاء أي قرارات أو إجراءات تهدف إلى تغيير مركز القدس أو تركيبتها الديمغرافية ، إلا انتصاراً للنضال السياسي الفلسطيني مدعوماً من الدول والشعوب المحبة للسلام .
إن الانطلاقة المتجددة ، والتي نحمل فيها غصن الزيتون الأخضر في وجه جبهة الأعداء لهو الدليل القاطع على أنّ حركة " فتح " هي وحدها القادرة على حماية المشروع الوطني الفلسطيني انطلاقاُ من التزامها بوطنيتها الفلسطينية ، بعيداً عن الارتباط والخضوع لأية ايديولوجيات لا تمت إلى طبيعة الصراع العربي الصهيوني بأنه صراع وجود لا صراع حدود ، وأننا في ظل موازين القوى والمعادلات العربية والإقليمية والدولية لا نملك القوة الضاربة التي نحقق بها الضربة القاضية على عدونا الصهيوني ، بل نملك امكانية تحقيق النقاط وتراكمها لنصل إلى حقوقنا في تقرير مصيرنا وعودتنا وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس العربيّة .
إننا اليوم وفي ظل العدوان السياسي الأمريكي على حقوقنا التاريخية والشرعية ، فإنّ حركة " فتح " تجدد انطلاقتها وترسم طريق المواجهة مع العدو الأمريكي الصهيوني ، وذلك من خلال المقاومة الشعبيّة اليومية التي يخوضها أبناء شعبنا العربي الفلسطيني على امتداد فلسطين من البحر إلى النهر ، مؤكدين بذلك على وحدة شعبنا في كافة أماكن تواجده في مواجهة هذه الهجمة الشرسة علينا ، والتي سننتصر فيها بإذن الله ، فقد أعلنت " فتح" ومنذ انطلاقتها بأنّ هذه الثورة هي ثورة حتى النصر .
بقلم/ صلاح صبحية