قراءة في كتاب: “كيف نقاضي إسرائيل؟“

بقلم: محمود الحنفي

يجب ألّا يخفى على أي باحث قانوني أن الأحداث التي تمرّ بها فلسطين عموماً إنما هي أحداث سياسية في الأساس يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا والدين مع السياسة والمحلي بالإقليمي بالدولي. ويجب ألا يخفى أيضاً أن الصراع العربي الفلسطيني إنما هو صراع دولي بكل معنى الكلمة، أدواته متنوعة بين عسكرية واقتصادية وإعلامية وثقافية واجتماعية… كل هذه القضايا تشكل المكوّن الرئيسي للقضية الفلسطينية. وأمام هذه المعطيات الهائلة، يصبح الجهد القانوني مسألة معقدة إن لم تؤخذ هذه المعطيات في الاعتبار، وتصبح الأدوات القانونية عاجزة عن تلبية ما يبحث عنه الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة. إنّ لكل معركة رجالاً، ولكل ميدان أدوات، وأي استخدام خاطئ إنما يضرّ بالقضية الفلسطينية. إن الباحث القانوني عندما يبحث في القضية الفلسطينية يجب أن يضع كافة هذه المعطيات على طاولة النقاش والبحث، وأي إغفال لها يجعل الجهد القانوني عبارة عن أمنيات وأحلام، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فكيف إن كان الجهد القانوني متعثراً وغير حقيقي.

مما لا شك فيه، أن أي نظام قانوني —كي يكون فاعلاً— إنما يحتاج إلى وجود جهاز قضائي مستقل ودائم يعمل على تأكيد احترام هذه الأحكام ويحدد مسؤولية كل من يخرج عنها. هذا ما افتقده المجتمع الدولي لفترة طويلة من الزمن، حيث لم يوجَد خلالها جهاز قضائي ذو مستوى فعّال لتطبيق قواعد القانون الدولي بصفة عامة وقواعد القانون الدولي الإنساني بصفة خاصة، ولا سيّما ما يتعلق بفلسطين المحتلة؛ نظام قانوني يستند إلى ضمانات دولية حقيقية وفاعلة وذات صدقية تدعمه.

هناك اختلاف بين وجود القانون وطبيعته الملزمة أو غير الملزمة أو القطعية من جهة، وتنفيذه واحترام الالتزامات المستمدة منه من جهة أخرى. فالقانون الدولي الإنساني يعاني من النقص نفسه الذي يعاني منه القانون الدولي عموماً، الافتقار إلى آلية التنفيذ. في حال القانون الدولي الإنساني، يبدو هذا النقص بنحو أكثر وضوحاً وحدّة، حيثُ يعنى هذا الفرع من القانون بحماية الشخص الإنساني في أكثر الأوقات صعوبة، أي في النزاعات المسلحة، سواء كانت دولية أم داخلية. ولعل ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 من تطورات خطيرة، وانتهاكات لحقوق الإنسان، ولا سيّما خلال العقد الأخير، يؤكد بوضوح مدى حاجتنا إلى معرفة الخيارات القانونية المتاحة لمقاضاة ”إسرائيل“ على جرائمها.

في هذا الإطار فقد بذل الباحث الدكتور سعيد الدهشان جهداً كبيراً، من خلال كتابه ”كيف نقاضي إسرائيل؟ المقاضاة الدولية لإسرائيل وقادتها على جرائمهم بحق الفلسطينيين“ من أجل الوصول إلى معرفة الخيارات القانونية المتاحة، ومن ثم اختيار الخيار الأكثر نجاعة.

يناقش الكتاب الذي يقع في 335 صفحة، موزعة على فصول ستة، مجموعة من القضايا المهمة، هي مفاهيم أساسية في القانون الدولي الجنائي، المرتكزات القانونية لمقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم دولية، الآليات القانونية لمقاضاة ”إسرائيل“ (محكمة العدل الدولية، الآليات الدولية لمقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين كأفراد، أدوار مهمة في تفعيل مقاضاة ”إسرائيل“، وأخيراً، إجراءات أساسية لتحقيق مقاضاة ”إسرائيل“ وقادتها.

ويطرح الباحث تساؤلين مهمين، الأول: هل يمكن مقاضاة ”إسرائيل“، والثاني: كيف يمكن مقاضاتها؟ وللإجابة عن هذه التساؤلين فإن الكاتب مضطر للخوض في غمار البحث القانوني حول ما هو ممكن وما هو غير ممكن في هذا الجانب، من خلال جملة من الأسئلة الفرعية.

يحاول الباحث تقديم خريطة طريق شاملة ومفصلة لكيفية العمل المطلوب من الفلسطينيين لتفعيل المقاضاة الدولية لـ”إسرائيل“ وقادتها عل جرائمهم بحق الفلسطينيين خطوة بخطوة، مع تقديم مقترحات لمساعدة صانع القرار الفلسطيني نحو الآليات الأكثر فعالية.

ولعل محاولة الباحث سوف تكون معقدة للغاية حين مناقشة الظروف السياسية التي يعمل بها صانع القرار السياسي الفلسطيني، الذي يسجل الباحث وفي أكثر من مناسبة عتبه الواضح على أدائه الذي لا يتناسب مع أهمية القضية الفلسطينية. فبعد إبرام اتفاقية أوسلو سنة 1993، استمر الجانب الفلسطيني في تخبطه القانوني من دون الرجوع إلى أهل الخبرة في القانون الدولي، حتى إذا أراد الرئيس الراحل ياسر عرفات أن يعلن قيام الدولة الفلسطينية في ربيع سنة 2000، كما كان مقرراً له بموجب اتفاقية أوسلو، واجه تحدياً عارماً من الجانب الإسرائيلي، ليكتشف لاحقاً أن ذلك الإعلان مرتبط بشروط قانونية في ملحقات الاتفاقية الدولية، يكاد يستحيل تحقيقها على أرض الواقع. فبدلاً من أن يطالب بتفعيل المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة في الجمعية العامة، بعد كل اعتداء يقوم به الإسرائيليون، ليتمكن من محاكمة المسؤولين الإسرائيليين في محاكم دولية، يكتفي المسؤولون الفلسطينيون بتكرار طلبهم، السياسي لا القانوني، في مجلس الأمن ليُواجه بفيتو أمريكي في كل مرة، أو يحصل على مجرد تنديد من المجلس في أحسن أحواله من خلال بيان رئاسي أو ما شابه.

وبدلاً من متابعة فتوى محكمة العدل الدولية تجاه الجدار العازل، من أجل إرهاق الشركات الأوروبية والأجنبية التي تورطت في المشاركة في بناء الجدار العازل، مخالفة بذلك اتفاقية جنيف الرابعة 1949، التي وقّعتها حكومات دولها وإجبارها على دفع تعويضات للمتضررين، لا يحرك المسؤولون الفلسطينيون ساكناً بشأن هذا الأمر.

وبدلاً من أن تستغل قيادة منظمة التحرير علاقاتها الطيبة مع بعض الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة ”إسرائيل“ على انتهاكاتها القانونية الفاضحة، ترفض تفويض حكومات أخرى لأجل القيام بذلك، وكأن الأمر لا يعنيها.

وبدلاً من أن يطالب المسؤولون الفلسطينيون مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتكوين لجنة مستقلة تدرس آثار كل انتهاك قانوني دولي تقوم به ”إسرائيل“، لتحديد المسؤولية القانونية الدولية، ومن ثم طلب إحالة ذلك على المحكمة الجنائية الدولية، يقف محامي القضية عند أعتاب المنظمة الدولية، مكتفياً بتنميق الخطابات السياسية.

وفيما كان ينبغي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تستثمر تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن العدوان على قطاع غزة، المعروف اختصاراً باسم ”تقرير جولدستون“، من أجل إحالة نتائج التقرير الذي اعترف بارتكاب ”إسرائيل“ جرائم حرب إبان حربها الأخيرة على غزة، تصرف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نظرها إلى الجهة الأخرى، وكأن الخيار الجنائي غير مطروح أصلاً.

وبدلاً من مقاضاة المجرمين الإسرائيليين تحت مبدأ الاختصاص العالمي (المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة)، من طريق تحريك مكاتب محاماة في الدول الأوروبية، لكون ممارسات دولة الاحتلال تعتبر خرقاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة 1949، يراوح القائمون على قيادة الشعب الفلسطيني مكانهم، مكتفين بفقاعات إعلامية لا تسمن ولا تغني من جوع.

مع مرور الوقت الطويل على المفاوضات السياسية مع الاحتلال، أصبح الأمر مثيراً للسخرية حقاً، حين أصبح تعنت الاحتلال أكثر وأشد: لا لحلّ الدولتين، لا لإيقاف الاستيطان، لا لهدم الجدار العازل، لا للمبادرة العربية، لا لعودة اللاجئين، لا لفكّ الحصار عن غزة، لا لإنهاء احتلال القدس والضفة الغربية، لا للاعتراف بنتائج الانتخابات الفلسطينية. ومع هذا التعنت الإسرائيلي، تتمسك قيادة منظمة التحرير بالمفاوضات حلاً وحيداً، وترفض خيار المقاومة بكافة أشكالها، حتى المقاومة الشعبية.

إزاء هذه المعطيات المعقدة، وإزاء الفجوة الهائلة بين الوقائع التي فرضها الاحتلال على الأرض وضعف الأداء السياسي الفلسطيني في إدارة المعركة القانونية مع الاحتلال، فإنك تجد إصرار الباحث واضحاً في الانتقال بين فصل وآخر وبين خيار وآخر وبين فرصة وأخرى، حتى لكأنه يأخذك إلى مقولة أن الانتصار في المعركة القانونية أمر ممكن لو توفرت ظروف سياسية مواتية، لكن الباحث ومع قدرته على الخوض في غمار البحث القانوني إلا أنه أيضاً طرح خيارات سياسية وإدارية مهمة، قد تشكل رافعة سياسية فيما لو أخذ بها صانع القرار السياسي على محمل الجد.

اعتمد الباحث على 177 مرجع ومصدر ووثيقة، شكَّلت كلها المنهل الذي نهل الكاتب في صياغته لكتابه.

يرى الباحث أن الخيار الأكثر أهمية لمقاضاة ”إسرائيل“ وقادتها هو خيار محكمة الجنايات الدولية، ومع أنه يحمل الجانب الفلسطيني المسؤولية بسبب عدم جديتها في هذا الإطار، سوء الجانب الرسمي أم جانب المنظمات غير الحكومية التي لم تعد الملفات بشكل جيد، إلا أن الباحث، أغفل، عن غير قصد، أن البيروقراطية المعقدة الذي تعتمد عليه محكمة الجنايات الدولية، وعلاقة المحكمة بمجلس الأمن، ثم عدم جدية المدعي العام لهذه المحكمة في فتح تحقيق تحت دواعٍ قانونية وأخرى إجرائية، كل ذلك يشكل عقبة كبيرة في اعتماد هذا الخيار، لا بل قد يجعله من الخيارات غير الممكنة في المدى المنظور والمتوسط.

أما خيار المحاكم ذات الاختصاص العالمي لا سيّما الأوروبية منها، فقد أورد الكاتب جملة من الخطوات لا بدّ من توفرها كي تكون فاعلة في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أو حتى التشويش سياسياً عليهم، إلا أن الكاتب لم يذكر أن العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول الغربية و”إسرائيل“ قد تكون أكبر بكثير من إعمال العدالة الدولية، وقد تتخذ هذه الدول قرارات مجنونة في سبيل المحافظة على هذه المصالح. صحيح أن ثمة إنجازات متواضعة في هذا المجال أربكت بعض الساسة الإسرائيليين في المطارات الغربية، إلا أن الجدار ما يزال سميكاً ويتطلب إجراءات مختلفة سياسياً ودبلوماسياً، حتى تُمكّن الفلسطينيين من اختراق هذا الجدار السميك.

بخصوص دور منظمات المجتمع المدني المحلية أو الدولية، فلها دور مهم من دون شك في إعمال العدالة الدولية، وهي متحررة أكثر من غيرها، لكن الباحث لم يذكر أن الكثير من المنظمات الحقوقية الفلسطينية، وعلى الرغم من أهميتها، إلا أنها قد تكون غير قادرة على المضي في تسهيل مهمة مقاضاة ”إسرائيل“ وتقديم الملفات وغير ذلك، بسبب شروط بعض الممولين. ولعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هي أكثر الجهات التي تدعم منظمات المجتمع المدني الفلسطيني لا سيّما الحقوقية منها. ألم تهدد الولايات المتحدة الأمريكية السلطة الفلسطينية من أنها سوف توقف الدعم إن مضت في خيار المحاكم الدولية؟ وأرى أن الاتحاد الأوروبي قد يكون فعل الشيء نفسه، لكن ليس بشكل علني.

يُعدُّ كتاب ”كيف نقاضي إسرائيل“ مرجعاً مهماً ليس فقط لرجال القانون، إنما لرجال السياسة والإعلام أيضاً، فضلاً عن طلاب العلوم السياسية والإنسانية، وذلك يعود للغة البسيطة التي استخدمها الباحث، بما يحافظ على جدية ورصانة اللغة القانونية من جهة والبساطة التي يفهمها غير القانونيين من جهة أخرى. وهو يضاف إلى سلسلة المحاولات الجادة الفلسطينية سواء عبر باحثين أم منظمات حقوقية جادة، وهو يشكل أرضية مهمة للنقاش القانوني والخطاب القانوني، الأمر الذي سوف يشكل حالة ضغط على السياسي الفلسطيني، ويرشد مساره إن عاجلاً أم آجلاً.

عرض: د. محمود الحنفي (خاص مركز الزيتونة)