عن إيران و”ثورتها الاسلامية” والحرب الاميركية ـ (العربية) عليها…

بقلم: طلال سلمان

في منتصف آذار (مارس) 1979، قصدت طهران للقاء قائد الثورة الاسلامية آية الله روح الله الخميني وأركان العهد الجديد في إيران، لأكمل حواراً كنت بدأته معه، في “نوفل لي شاتو”، احدى ضواحي باريس، في فرنسا، قبيل عودته مظفراً إلى بلاده التي كانت تنتظره في الشارع.

بعد الخميني الذي التقيته في قم، عدت إلى طهران لأعقد سلسلة من اللقاءات مع أول رئيس للجمهورية الإسلامية في إيران الحسن بن صدر وعدد من قيادات حزب جمهوري اسلامي الذي أعلن قيامه مباشرة بعد نجاح الثورة.

كان الدكتور بني صدر متوتراً نوعاً ما.. ولقد سألته بداية عن “الجمهورية الاسلامية”، ومن أين تستمد اصولها، وهل ستكون كسائر الجمهوريات ام مختلفة عنها وبماذا تختلف؟ ثم أين موقعها في الدين الاسلامي الذي تعتمد الجمهورية الجديدة شريعته ؟! وهل عندكم نموذج معين لهذه الجمهورية؟

ولقد ابتسم بني صدر ابتسامة ساخرة قبل أن يقول: ولكنكم، أنتم العرب من دمر ذلك النموذج المفتقد الآن، والذي نحاول مع الامام آية الله الخميني بناءه على ما كان يقصده او يريده الرسول الكريم محمد بن عبدالله..

قلت بلهفة تغطي الفضول: وماذا كان ذلك النموذج؟

قال بني صدر بلهجة استاذ يعطي درساً لتلامذته: لا بد، اولاً، من الافتراض انك مطلع بالقدر الكافي على سيرة الرسول..

وحين رآني أهز رأسي موافقاً اضاف يقول: عندما هاجر الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة (يثرب، آنذاك) تبعه “المهاجرون” واستقبله في المدينة “الانصار”.. وكان اول ما فعله الرسول أن عقد معاهدة بين المهاجرين والانصار، ثم معاهدة اخرى مع المسيحيين في المدينة، وثالثة مع اليهود، ورابعة مع من كانوا قد بقوا على وثنيتهم.. وهكذا فان الرسول قد اراد، في ما أعتقد، أن يقدم النموذج، فابتدعتم “الخلافة”، ثم قتلتم ثلاثة من الخلفاء الراشدين، من أصل اربعة، إلى أن انتهى الامر إلى معاوية فتجاوز الدولة الاسلامية لينشئ إمبراطورية جديدة على غرار الفرس والروم.

لم يكن منطق بني صدر قابلاً للمناقشة، برغم انني حاولت مجادلته عبثاً.

اردت أن اتخذ من هذا اللقاء مدخلاً للحديث عن ايران الثورة الاسلامية وما يجري فيها، سواء بدوافع ذاتية ام بتحريض خارجي، كما تقول طهران، وهذا قابل للتصديق في ضوء التصريحات الغبية والمستفزة للرئيس الاميركي دونالد ترامب، مشفوعة بطلب انعقاد جلسة طارئة لمجلس الامن لتناقش مسألة داخلية في دولة اقليمية كبرى ليس لما يجري فيها أي تأثير مباشر على جوارها، بشهادة مواقف كل من روسيا وتركيا والعراق..

ومعروف أن ايران دولة متعددة الاعراق، وفيها إلى جانب الاكثرية الفارسية خليط من اقليات تتواجد دول اكثرياتها في جوارها، ابرزها ما كان يسمى بالجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السابق (آذرايين وافغانا واتراكاً وتركمانا وبعض الارمن الخ..)

ومعروف ايضاً أن الايرانيين قد ذهبوا إلى التشيع خلال حربهم مع العثمانيين، قبل اربعة قرون او يزيد، وبعد حرب طويلة مع “السلطان “وجيوشه..

لكن قائد الثورة الاسلامية في إيران، الامام الخميني، لم يُنصب نفسه سلطانا، ولا خليفة، لا ملكا ولا رئيسا، بل اختار أن يكون بصفة “المرشد” أي “نائب الامام المغيب”، كما يقول الشيعة، مضفياً على منصبه السامي تبعات المرجعية الدينية فضلاً عن القيادة السياسية، في ظل نظام له رئيس للجمهورية وحكومة ومجلس شورى (برلمان) منتخب، وان كان قد اضاف إلى الجيش “الحرس الثوري” التابع مباشرة للإمام ـ القائد.

ولقد خاضت ايران الخميني حرباً ضروساً مع صدام حسين الذي هاجمها في السنوات الأولى “للعهد الجديد”، واستمر يحاربها سبع سنوات عجاف حتى تم التوصل إلى هدنة عقدت بين الدولتين في الجزائر، وشبهها الخميني بتجرع كأس من السم..

بعد الحرب ستنهض ايران لتغدو قوة اقليمية كبرى، وتمد نفوذها ـ كما الحال اليوم ـ إلى العراق وسوريا (حيث شاركت مع جيشها في صد الحرب فيها وعليها) والى لبنان (حيث بات “حزب الله” الذي يحظى برعايته اقوى تنظيم شعبي وعسكري في المشرق العربي، بدليل مقاومته الباسلة التي أجبرت الاحتلال الاسرائيلي على الجلاء مدحوراً عن جنوب لبنان في العام الفين، ثم دحر جيوش هذا الاحتلال في حربه على لبنان في صيف العام 2006..)

ولقد توالت الاتهامات ضد ايران، وابرزها الاتهام السعودي بتدخلها في اليمن ـ بينما لم توفر السعودية سلاحاً في حربها ـ ومعها دولة الامارات ـ ضد ذلك البلد الفقير والبلا رأس والذي يلتهم اطفاله مرض الكوليرا، فضلاً عن غارات الطيران الحربي التي لم توفر مستشفى او مدرسة او جامعة او مؤسسة رسمية فضلاً عن البيوت المعلقة فوق قمم الجبال العالية..

أطرف التطورات أن يتولى الرئيس الاميركي دونالد ترامب “اعلان الحرب” على ايران، التي كانت قد توصلت إلى اتفاق تاريخي مع سلفه باراك اوباما والدول الست حول الاتفاق النووي… وهكذا فقد تولت واشنطن دعوة مجلس الامن الدولي إلى الانعقاد، في سابقة فريدة في بابها لمناقشة الاوضاع الداخلية في ايران و”القمع” الذي استخدم لفض التظاهرات بالقوة، بينما سيل التظاهرات المؤيدة للنظام في طهران تملأ الشوارع في العاصمة وسائر المدن الايرانية..

ومعروف أن في إيران حركة سياسية ناشطة، وان فيها تيارات معارضة للحكومة برئاسة رئيس الجمهورية حسن روحاني ولكن ليس “للمرشد” أي الامام خامنئي، وان لهذا الموقع نوعاً من الحصانة المعنوية للشميم الديني فيه.

انها جولة جديدة في الحروب العبثية التي يخوضها الرئيس الاميركي (على تويتر) في تصريحاته الصباحية المبكرة، كما في مواقفه المعلنة عشوائيا التي كثيراً ما اثارت حفيظة وزارة الخارجية، لتجاوزها الاصول والاعراف.

*****

اما اذا اردنا الحديث في السياسة والدور الايراني المتعاظم في المشرق العربي (فضلاً عن افريقيا وآسيا على وجه التحديد) فلا بد من التذكير بالوقائع الآتية:

أولاً ـ أن الدول العربية التي طالما لعبت الدور القيادي في هذه المنطقة غائبة او مغيبة نتيجة اوضاعها الداخلية، السياسية منها والاقتصادية وكذلك العسكرية..

ـ فالعراق يحاول استعادة دولته ودورها في محيطها، منذ الخيبات التي مُنيت بها مغامرات صدام حسين (الحرب على ايران، غزو الكويت الذي جاء بالجيش الاميركي إلى بعض العراق، وصولاً إلى الاحتلال الاميركي ـ للعراق جميعاً بعد تدمير دولته.. ثم غزوة “داعش” واحتلال عصاباته الموصل وأكثر من نصف مساحة العراق، مما استهلك حوالي خمس سنوات من عمر هذا البلد الذي انهكته الحروب العبثية، فضلاً عن المحاولة الانفصالية التي قادها مسعود البرازاني في الشمال (كردستان) واندفاعه إلى حد التلويح بالاستقلال في دولة كردية خالصة، ثم استقالته بعد هزيمة مشروعه وتمسك الاكراد بدولة عراقية واحدة ولو فيدرالية).

ـ اما سوريا فقد شغلتها الحرب فيها وعليها عن دورها وهددت دولتها بالتفكك، وشردت حوالي ثلث شعبها وأنهكت اقتصادها والجأتها إلى طلب المعونة (عسكرياً واقتصاديا وامنيا) من روسيا بوتين، كما من إيران الثورة الاسلامية، ومعها “حزب الله” في لبنان.

ـ فأما مصر فتحاول استعادة دورها العربي والاقليمي، الذي عطلته التطورات الداخلية فيها وانشغالها بالداخل الذي يتعاظم عدد سكانه بأرقام تتخطى التوقعات..

ـ وأما باقي الدول العربية فإنها مشغولة بذاتها كما الجزائر، واما انها قد طلقت المشرق العربي، كما المغرب (فضلاً عن ليبيا التي سقطت سهواً) … في حين أن دول السعودية والخليج العربي قد اتخذت منذ فترة طويلة موقع “الخصم” بل “العدو” لإيران، وهي اليوم تعيش فرحاً مثيراً للشفقة “شماتة” بإيران، وتحاول التأكيد بالوسائل كافة انها تدعم “الانتفاضة الشعبية ضد حكم الملالي في طهران”.

*****

” تَعجَبينَ من سَقَمي..               صِحَّتي هِي العَجَبُ..”

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية