من السهل على المتابع أن يرى أن الظروف تكالبت أو تكاد لتوجيه ضربة قاضية، على الأقل مرحليا، للقضية الفلسطينية، وبعثرة كل ما بقي منها من ثوابت، وإنهاء ما اصطلح عليه زورا وبهتانا وخديعة بحل الدولتين، وهي أكبر كذبة بلّعنا إياها الأوسلويون، من تقدم منهم ومن تأخر، لتبرير الانحراف التاريحي عن خط النضال والتعبئة والحشد والثورة والمواجهة، واستبدال ذلك ببرنامج المفاوضات العبثية التي استبدلت هدف التحرير بهدف الدولة المستقلة.
ورافق ذلك حملة ديماغوغية من الشعارات الطنانة التي زرعت الوهم لدى قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، خاصة من هم تحت الاحتلال، التواقين إلى الانعتاق من كوابل الاحتلال تحت مقولة إن دولة فلسطينية مقبلة لا محالة، و"سيرفع شبل أو زهرة علم فلسطين فوق مساجد القدس وكنائس القدس، شاء من شاء وأبى من أبى، واللي مش عاجبة يشرب بحر غزة".
الذين صدقوا وهم أوسلو في قيام دولة مستقلة مترابطة قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشريف لم يطلعوا، على ما يبدو، على بنود الاتفاقية، وما لحق بها من اتفاقيات كانت أكثر كارثية، خاصة اتفاقية باريس الاقتصادية (1994) واتفاقية أوسلو 2 في طابا (1995) واتفاقية الواي ريفر وتقسيم الخليل (1998). كل المقدمات كانت تشير إلى النتائج الكارثية. وكم صرخنا أنا وعشرات الكتاب محذرين من الفخ الذي نصبه لهم ثعلب السياسة الإسرائيلية شمعون بيريس، إلى أن تبين لهم أن صفقة "سلام الشجعان" إنما كانت صفقة "سلام الاستسلام" بلا رتوش ولا لف ولا دوران.
الظروف الملائمة لتصفية القضية
سنمر باختصار على مجموعة عوامل تلاقت مرة واحدة قد لا تتكرر أبدا، تغري إسرائيل بتصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وإعلان أن الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من إسرائيل، وأن الاستيطان في أي بقعة من فلسطين التاريخية حق لهم وحدهم، وأن القدس انتهى أمرها، وحق العودة مجرد حلم، وحق إقامة الدولة الفلسطينية قبر وإلى الأبد:
أولا – الظرف الدولي
إن وجود إدارة في البيت الأبيض كتلك التي يقودها ترامب، والأخطر منه مايك بينس تعد فرصة نادرة قد لا تتكرر أبدا. ترامب محاط بمجموعة صهاينة متطرفين ليس أقلهم كوشنير، أو فريدمان أو غرينبلات، بل مجموعة أكبر بكثير من ذلك. باختصار وزارة ترامب – بينس ليكودية بامتياز، شذ عن الجماعة تيلرسون وزير الخارجية لا يحل ولا يربط ومهمش، ووزير الدفاع ماتيس الذي لا يقترب ترامب منه ولا يحاول أن يثني يده لأنه لا يريد أن يغضب العسكر. وقد قدم هذا الفريق الليكودي "صفقة العصر"، التي بكل بساطة تعني إنهاء القضية مرة وإلى الأبد، وبدأها يوم 6 ديسمبر باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وتشمل إلغاء حق العودة وإبقاء المستوطنات، ونشر الجيش الإسرائيلي في الأغوار- غزة تتبع مصر بعد تسمينها قليلا وما تبقى من الضفة يرتبط بالأردن. هذا الظرف لن يتركه نتنياهو يمر بدون أن يمتص منه كل قطرة رحيق لتعزيز هيمنة إسرائيل على كل فلسطين التاريخية.
ثانيا- الظرف العربي بين الحروب الأهلية والتآمر على فلسطين
ما زالت الحروب والنزاعات البينية منتشرة في العديد من الدول العربية، خاصة سوريا واليمن وليبيا والعراق بدرجة أقل. أضف إلى ذاك تفاقم ظاهرة الإرهاب المتغطي برداء الإسلام، وانتشار الحركات المتطرفة والتجاذبات الطائفية. لكن الجديد هو انكشاف مواقف الأنظمة الثلاثة المصري والسعودي والإماراتي، في التآمر على قضية فلسطين، والتوافق مع خطة ترامب في تقديم القدس على طبق من ذهب لإسرائيل. السعودية تقترح "أبو ديس" عاصمة لفلسطين، ومصر تقترح رام الله، أما الإمارات فتعتبر القدس قضية جانبية، والقضية الرئيسية بالنسبة لهم الخطر الإيراني والخلاف مع قطر. البحرين من جهتها بعثت وفدا رسميا لإسرائيل بعد يومين من قرار ترامب، دخل مناطق القدس بحراسة إسرائيلة، وسمعت من كثير من أبناء القدس أنهم كانون يتمنون لو قام الوفد بزيارة للأقصى ليقوم الفلسطينيون بواجب الاستقبال الذي يليق بوفد مملكة البحرين العظمى.
انكشفت الأدوار تماما وتعرت الأنظمة العربية كلها بين لا مبال أو متآمر أو شريك لترامب في المؤامرة. نتنياهو لن يجد أفضل من هذا الظرف لتثبيت استيلائه الكامل على فلسطين بمباركة عربية، ونحن نسميها باسمها الصحيح (خيانة عربية).
ثالثا – الوضع الإسرائيلي
لم يمر في تاريخ إسرائيل القصير حكومة أكثر تطرفا ورعونة من حكومة نتنياهو – ليبرمان- بينيت – التي تترجم رؤيتها على الأرض يوميا ببناء مستوطنات جديدة، أو تسمين الموجود، والإسراع في عملية تهويد القدس، واستكمال بناء جدار الفصل العنصري، ومصادرة الأراضي وسرقة المياه وأسر أكثر من 7600 فلسطيني، وسهولة إطلاق النار على الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، وحماية عنف المستوطنين. الحكومة تناقش الآن مجموعة قوانين أقر بعضها في قراءتها الأولى مثل إعدام الفلسطينيين، وضم الضفة الغربية وقانون المواطنة. ولن يجد هذا التآلف الدموي أكثر من هذا الظرف ملاءمة للاستيلاء على الأرض كل الأرض من جهة، والتخلص من السكان كل السكان إن أمكن.
رابعا – الحالة الفلسطينية قمة وقاعدة
وجدت هذه المرة في زيارتي الأخيرة للقدس بعد قرار ترامب، أن الناس في حيرة من أمرهم وكأنهم غير مصدقين. لقد شعروا بثقل العبء، فلا هم قادرون على التنصل من المسؤولية، ولا هم مجهزون لدفع الثمن الباهظ. السلطة ضائعة هي الأخرى وتنتظر غيرها أن يعمل على تصحيح الخراب الاستراتيجي الذي سببه قرار ترامب. خطاب الرئيس محمود عباس بعد إعلان ترامب كان باردا ولا يليق بالمناسبة، وقد حاول تصحيح غلطته في إسطنبول، لكن بدون إجراء واحد على الأرض. وحتى الأطر القيادية الأخرى لم تعقد اجتماعات للتباحث في المسألة.
ما زال اتفاق المصالحة لم يترجم تماما على الأرض، والانقسام السياسي والأيديولوجي والجغرافي بين الضفة الغربية وغزة ما زال قائما. السلطة تشعر بأنها محاصرة، مثل قطاع غزة، من السعودية ومصر وإسرائيل والولايات المتحدة. والتهدديد الأمريكي بقطع المساعدات يعني واحدا من شيئين، الانصياع أو التفكك وهما "أمران أحلاهما مر". والتهديد لا يشمل فقط السلطة، بل يضم وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين (أونروا) الذي يعني تدمير الشاهد التاريخي على نكبة فلسطين، وهو ما طالب به نتنياهو بكل صفاقة. إنها فرصة نتنياهو أن يدمر السلطة ومعها الأونروا كي يغلق وإلى الأبد موضوع حق العودة.
أين المفر؟
وضع الفلسطينيين الآن أشبه بجيش طارق بن زياد – العدو الإسرائيلي أمامنا والمتآمر العربي خلفنا، والراعي الأمريكي لصفعة العصر من فوقنا وتحتنا. إذن أين المفر؟ ثلاث خطوات عاجلة:
أولا – الاعتراف بخطيئة أوسلو
يجب أن تقر السلطة أولا بخطيئة اتفاقيات أوسلو، وما سبقها من رسائل الاعتراف المتبادل، وما تلاها من اتفاقيات خطيرة. لقد كانت أوسلو نقطة التحول التاريخية التي نقلت الشعب الفسطيني وثورته المعاصرة، من حالة مقارعة الكيان والاحتلال إلى جهاز أمني مهمته الأساسية ضمان أمن الاحتلال. إن استمرار التنسيق الأمني في هذه المرحلة بالذات لا يعني إلا شئيا واحدا هو التآمر على الشعب الفلسطيني وقضيته والاصطفاف إلى جانب عدوه. الاعتراف بالخطيئة قد تعني الاستقالة أو التغيير الجذري وتحميل سلطات الاحتلال مسؤولية الاحتلال.
ثانيا – تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية
تبقى منظمة التحرير الفلسطينية هي الخيمة الجامعة لكافة أطياف الشعب الفلسطيني وتجمعاته وقواه الحية. وتفعيل المنظمة عمل جماعي يجب أن يشمل كافة مؤسساتها ومناطق تواجد الشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات. هناك ضرورة لإعادة بناء المجلس الوطني الفلسطيني بجدية، وبعدد معقول يمثلون فعلا قوى مدنية وسياسية وتجمعات ونقابات وأصحاب فكر ومهارات وفاعليات فنية وثقافية واقتصادية. يمارس الانتخاب حيث يمكن ممارسته ويتم الاختيار الإجماعي أو شبه الإجماعي عندما يتعذر الانتخاب. وبعد اكتمال إنشاء المجلس الوطني الجديد يدعى للاجتماع لانتخاب لجنة تنفيذية وإقرار برنامج المرحلة المقبلة.
ثالثا – إقرار برنامج نضالي واضح
لا شيء يوحد الشعب الفلسطيني مثلما توحده المقاومة. ولا شيء يضمن اصطفاف جماهير الأمة العربية والإسلامية وشرفاء العالم، إلا النضال لانتزاع الحقوق. ما أقصده بالنضال هنا أولا الانتماء إلى حالة ذهنية تقوم أساسا على مبدأ أن الحقوق تنتزع انتزاعا وأن صاحب الحق قوي ما دام متمسكا بحقوقه ورافضا التخلي عنها. ثم تأتي المقاومة السلمية المتواصلة والمتعاظمة والقادرة على إنجاز في وقت قصير أكثر بكثير مما أنجزه جماعة "الحياة مفاوضات". يجب أن يشكل النضال الفلسطيني المدعوم عربيا وعالميا – التوسع في برنامج المقاطعة، وسحب الاستثمارات والعقوبات، وكسر الحصار عن غزة؛ والاستمرار في تسيير المظاهرات والمسيرات السلمية العارمة والمتواصلة والمنظمة نحو الحواجز أو الجدار أو المستوطنات.
وأود أن أؤكد في النهاية أن الشعب الفلسطيني أمامه الآن أحد خيارين: إما محاولة إنقاذ القضية برمتها، حتى لو كان ذلك على حساب فقدان عدة آلاف لامتيازاتهم، أو الاستمرار في النهج الحالي والانزلاق الأكيد نحو الهاوية التي أعدها الثنائي نتنياهو ترامب للفلسطينيين، في ظل دعم أو تخاذل أو لامبالاة أنظمة عربية.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي