قراءة في خطاب السيد الرئيس

بقلم: ميساء أبو زيدان

عادةً ما تبحر سفن القادة والنخب السياسية والمعنيين على تضاريس التاريخ والجغرافيا لفهم مجريات الأحداث سياسياً وعلى مستوى العالم بما يتضمنه من مكونات ومعادلات وعوامل لتحديد المسارات التي بإمكانها أن تفضي لإنجازات تحقق الأهداف التي حددوها في ميدانهم، وبالمقابل يهرول المغامرون في المضمار السياسي بغض النظر عن أدوارهم والأهداف المحدودة التي ينشدونها محاولين الإستزادة بكل ما يمكنه أن يضيف لهم وزناً ما وفي الميدان الذي يستهدفون. لتتشكل أمامنا هوّة بين الفريقين بحيث تؤشر للواقع المُعقد الذي ترزح تحته شعوبنا وكأننا بذلك نستحضر في ذاكرتنا كيف عانت مجتمعاتنا في الشرق من التقسيمات الطبقية ولكن بصياغات مختلفة هذه المرة.
وهذا ما نشهده فلسطينياً ,حيث تأتي الاجتهادات لتتناول مجريات الأحداث على ساحتنا والتي لا تستند في معظمها لأي ربط موضوعي ,ولا حتى لسياق الأحداث ولا تعتمد على مكونات الثقافة الوطنية التي رُسخت بفعل الحق والنضال العادل لتصب في نهاية الأمر بفضاء العبث الكفيل بتشتيتها كونها لم تُحصن بمساعٍ تعزز من مصداقية توجهاتها. وهنا نستثني البعض الأمين الذي يحاول ورغم شُح مصادره أن يؤشر لجوهر الأحداث ليضيف هنا أو هناك ما يمكنه أن يصوّب. وإن أردنا أن ندلل على ذلك فدعونا نتناول كيف دخل خطاب السيد الرئيس "أبو مازن" بوتقة التحليلات والتفسيرات التي لم ترتقِ بمعظمها لجدية الموقف، بل لم يدرك هؤلاء أهدافه ,وبالتالي لم تكن هناك وقفة جادة بخصوصه تعكس الفهم السليم لمضامينه التي طُرِحت خلال تلك الساعتين اللتين كانتا الحدث الرئيس بالنسبة لأطراف عديدة تجاوزت الدائرتين الفلسطينية والعربية، إنّما تم تجاوز الخطاب في اليوم التالي إلا في حدود ما خطته بعض الأقلام وما تناقلته صالونات الترف كدردشات وهو الغير مستغرب في حالتنا الفلسطينية.
أما إن أردنا أن نخوض في قراءة مركّزة للخطاب نجد أن معظم عناوينه جاءت لتشير إلى ملامح عالمٍ جديد سيختلف بتوزيع قواه في العقود القليلة القادمة، ولكن دعونا قبل ذلك أن نتناول مسائل هامة لا يمكن لنا أن نتجاوزها كالفئة التي استُهدِفت والدوافع وراء استهدافها من قبل السيد الرئيس والتي تراوحت بين الذاتيّ والوطني. الأمر الذي ميّز الخطاب عما سبقه بحيث كنا نحن الفلسطينيون على اختلافنا المستهدفين في المقام الأول ليضعنا - ولكونه يؤمن بسلطة القدر المطلقة - أمام مسؤولياتنا في لاحق الأيام بحيث أفرد أمامنا منهجيته التي يتبنى والتي اتسمت بالموضوعية والحكمة والأمانة، كما حرص من خلال استهدافنا على مكاشفتنا ولو نسبياً لنقف أمام مستوى أداءنا مجتمعين وبكافة الأدوار التي حددناها على أساس احتياجاتنا ومصالحنا الوطنية، لندرك حينها سواءَ اعترفنا بذلك أم لا حجم التباين بين ما يتم زرعه وبين فاعلية الأداء وبمجمل الوظائف التي من المفترض لها أن تقوم بحماية ورعاية هذا الزرع، ليتجلى أمامنا وبإقرار الجميع درساً في التاريخ والسياسة والوطنية وبالتأكيد كان دور المعلم فيه واضحاً. الأمر الذي يدفعنا أن ندعو مَن كان يعتقد أن الخطاب استهدف إدارات عالمية وغيرها ليراجع تاريخنا الفلسطيني المعاصر مراجعةً شاملة ودقيقة وصولاً للحظتنا هذه كي يكتشف أننا انفردنا دوماً برسالة واحدة وواضحة للعالم أجمع مفادها أنه لا يمكن لأي قوة في العالم أن تفرض على شعبنا الفلسطيني أية مشاريع تمس وتنتقص حقه الغير قابل للتصرف، وليصل إلى نتيجة وهي أن هذه الــ (لا) كانت ولا زالت هي رسالتنا التي وجهناها عبر المراحل المختلفة وبكل الصيغ والوسائل. وهنا وكوننا كنا نحن المستهدفين منه نجد أنفسنا أمام تساؤل هام وهو: هل لنا أن نتعمق في قراءة الخطاب والتقاط الرسالة منه للعمل عليها؟
أما المسألة الأخرى فلقد برزت في مضمون هذه الرسالة والتي حاول من خلالها السيد الرئيس "أبو مازن" أن يُشمل كيف تحمل الأمانة وكيف أداها موضحاً منطلقات أدائه وما أحاطه من ظروف وعقبات على الرغم من تجاوزه لذكر العديد منها، بحيث تراءت أمامنا لحظةً تاريخية أخرى عاشها الشعب الفلسطيني ولكن قلائل هم الذين أدركوا أثرها وثقلها، وإن تساءلنا لماذا؟ , ذلك لأننا ودون المساس بقدرة شعبنا المذهلة نعاني من قصورٍ حاد في امتلاك المقدرة على المواكبة والمعالجة بإطار إدارتنا للأزمات وبمختلف الأطر مع استثناءات قليلة للغاية.
وبخصوص مسألة الهدف منها فلا يمكن لنا أن نحصره بمجمل ما خضناه منذ ذلك الإعلان البغيض الذي يعكس رعونة الإدارة الأمريكية في تناول قضايا المنطقة لحين صدور البيان الختامي للمجلس المركزي الأخير بحدود ردود الفعل، بل إننا نراه يتجاوز ذلك بالمطلق بحيث يتضح لنا أننا نعمل على التقاط الفرص والتي ستُمكنّا من إحراز عدداً آخر من الأهداف الفلسطينية، فبالرغم من قدسية حقنا في مدينتنا "القدس" والتي تعتبر أهم مناحي الصراع الذي نخوضه ضد المُحتل وتلك القوى التي تسانده وتحابيه إلا أنها تأتي كقمة القضايا التي نناضل للانتصار لها جملةً واحدة، فمَن قال أن قضية حقنا في الوجود وتقرير المصير تقلّ أهميةً عن حقنا في "القدس"! أو أن أم القضايا (قضية اللاجئين) لا تُشكل ثقلاً في ميزان الحق الفلسطيني ! إلى مجموع القضايا التي نناضل لأجلها في هذا الصراع الذي نخوض.
مَن قال أن "أوسلو" ذلك الإتفاق الذي ومن خلاله أنجزنا مشروعنا الوطني وبكل ما أوتينا من تضحيات وملكات وإمكانات قد انتهى وبالصورة القاصرة التي يتناولها السواد الأعظم ! وإلا فكيف وصلنا إلى أن ندفع العالم برمته ليعليّ صوت الحق وبهذا الزخم وليصدح في سابقةٍ هي الأولى من نوعها وبصوتٍ مدوٍّ بوجه القوى الاستعمارية ليقول : (العالم ليس للبيع) ! ,كيف لنا أن نتنكر للقدرة المنفردة التي تحلينا بها كفلسطينيين والتي حرصت على خوض كل ممكن لخلق تراكم أسس لمكانة فلسطين الحالية في الإطار العالمي ! أم أن إيماننا بحتمية النصر قد ضَعُف رغم كوننا أصحاب الحق ؟ ,وبصيغةٍ أخرى هل من المقبول علينا أن نستسلم لذلك الوهم الذي أحاط بتلك القوى الاستعمارية اللاإنسانية والتي تعمل دوماً وتحاول أن تفرض منطق التفوق علينا كشعوب وحضارات ؟.
وعودةً للخطاب دعونا نتناول ما تضمنه من مؤشرات وبمختلف المستويات، حيث المستوى الأول الذي أشار لنوعية أداء مكونات الخارطة السياسية الفلسطينية والتي باتت عاجزة بحكم الإصرار الدائم على التخلي عن الأدوار التي تبناها كل مكوّن على حِدا ولأسباب اتّصَفت بالذرائعية لدى طرحها علانيةً لكنها حقيقةً عكست تخلٍّ واضح وصريح عن تحمل عبء المسؤوليات الوطنية تجاه شعبنا الفلسطيني لتدفعنا أمام مشهد تتصدره حركة "فتح" بحيث تتحمل المسؤوليات كافة، كيف لا وهي التي جاءت وبإرادة وطنية خالصة كي تتحمل وحدها ورغم التحديات والظروف القاهرة التي تستهدفها وتحيط بها مسؤولية توفير متطلبات مسارنا النضالي على اختلاف طبيعتها وميادينها. وتمت الإشارة أيضاً عبر هذا المستوى لقدرتنا كفلسطينيين بالحفاظ على جذوة القضية الفلسطينية في الحضور الدولي وبخضم العواصف العاتية التي اجتاحت منطقتنا لتفرض علينا واقعاً استعمارياً جديداً ومخلفةً كوارث إنسانية مُفجعة، ورغم ذلك لن نفقد ثقتنا في مقدرة الشعوب على تجاوزها بناءً على ما تفرضه الحتمية التاريخية لمنطقتنا العربية.
وبما يرتبط بالمستوى الثاني فقد احتوى الخطاب على مجموعةٍ من المؤشرات التي تناولت واقعنا العربي وكيف تبرز (رغم مجموع التحفظات التي أشارت لمواقف لا تلتقِ ومتطلبات إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي) إرادة عربية جادة تتجاوز المخطط الذي يستهدف المنطقة من خلال تكثيف الجهود وتوحيدها، إلى جانب ظهور الدور الفلسطيني جليّاً في هذا الإتجاه بل يمكننا الحديث هنا عن نجاحات واضحة سُجّلت ولا تزال على صعيد الأزمات العربية بغض النظر عن قدرها، إلا أنها وكما يتضح استطاعت التصدي لعددٍ من التداعيات الخطيرة المرتبطة بها ,وبهذا نصبح وبحُكم محورية دورنا في هذا الصراع لاعباً رئيسياً في المنطقة بحيث تجسد بالمقدرة المنفردة التي تدفعنا لوصف السيد الرئيس بـ"الزعيم" دون نقاش.
وهنا وإنطلاقاً من المستويين السابقين يأتي هذا المستوى والمتصل بالإطارين الإقليمي والدولي بحيث تخللت الخطاب إشارات ألمحت إلى أننا بصدد واقع عالمي جديد سيختلف في موازين القِوى فيه بحيث تتشكل تحالفات دولية تهدف وبجدية لإحداث اختراقات في نمطية الأدوار المنوطة بها والتي بالتأكيد ستعتمد على تكتلات إقليمية، وهنا يأتي الجهد الفلسطيني الذي يستثمر في هذه المناخات الحديثة ليُشارك بذلك في رسم ملامح هذا العالم الجديد.
نعم تبرز وبوضوح المقدرة الفلسطينية بهذا الشأن وإلا فإن فقداننا لإدراك هذه الحقيقة سيؤدي بنا لما آلَ له العديد الذي تناول الخطاب بشكل عابر إلى تلك التحليلات التي وصفته بأنه خطاب الإفلاس السياسي ,بل فقدان زمام الأمور. إن المُدرك لبراغماتية الأخ الرئيس "أبو مازن" سيتيقن من أنه لا يمكن أن يأتي الموقف الفلسطيني بهذه اللغة دون أن يرتكز لعدداً من الأوراق التي تحتفظ بها القيادة الفلسطينية في جعبتها والتي وبالتأكيد تعتمد أساساً على إرادة شعبنا الفلسطيني العظيمة.
وعليه فإن مضامين هذا الخطاب التاريخي والذي يضعنا أمام مِفصل مصيري نحن بصدده تُلزمنا كفلسطينيين وبالتحديد المكونات الوطنية بخارطتنا السياسيىة والتي تجتمع بظل الإطار الوطني الجامَع أن نقف أمام الإلتزامات التي تفرضها علينا معركتنا ضد الإحتلال، نحو ترسيخ وجودنا على أرضنا التي نمتلك تاريخياً، وأن نعمل على توفير متطلبات الثبات وعدم الإنحراف بل التقدم في مسارنا وعلى رأسها تجسيد شراكة فعلية تجاه تحمل المسؤوليات الوطنية والتي تأتي انعكاساً لاستقلالية قرارنا الوطني الفلسطيني,كما وتدفعنا أيضا نحو إنجاز وحدة وطنية حقيقية وبشكل عاجل ,بحيث نتجاوز بذلك الصيغ اللفظية لنحمي بكل ما أوتينا شعبنا ونعزز صموده ونحفظ له مقدراته الوطنية، إلى جانب ضرورة حماية مظلتنا وممثلنا الشرعي والوحيد حيث المعركة القادمة ستغدو شرسة عليها.
دعونا نمتلك المقومات التي تضمن لنا ديمومة مسارنا النضالي كإعادة الإعتبار لمجموع علاقاتنا وبكل الوجهات، ولنتبنى أيضا منهجية تعتمد على الوسائل الناجعة كاعتماد أداة التنقيب في تحديد نقاطنا العمياء على مستوى معاركنا التي نخوض كي نمتلك المقدرة بتحديد آليات المعالجة الكفيلة بتجسيد كوننا رأس الحربة في التصدي للمخططات التي تستهدف منطقتنا برمتها ,ولنعمل أيضا على تشكل قناعة مفادها أننا جميعاً سنعيش انعكاسات أداءاتنا بحيث نعيش فعلياً مقولة الأديب اللبناني "أمين معلوف" حين قال: "مَن لا يتحكم بالسياسة ستتحكم به السياسة لاحقاً"، فدعونا أيها الفلسطينييون وقبل فوات الأوان أن نلتقط هذه الفرصة التاريخية التي لن تتكرر.

بقلم: ميساء أبو زيدان