مستقبل المسألة الفلسطينية والمنطقة في ضوء سياسة إدارة ترامب

بقلم: فهد سليمان

بعد عام على تربعها على السلطة في البيت الأبيض، يمكن الجزم بأن السياسة الأميركية، كما تصوغها إدارة ترامب، باتت تتسم بأنها سياسة هجومية، تتقدم الصفوف، وتقتحم المواقع وتفتح الطريق أمام الجانب الإسرائيلي ليحقق مشروعه السياسي، وتقدم له الإسناد القوي، عسكرياً، ومالياً، وإقتصادياً، ودبلوماسياً، في الوقت الذي تمارس فيه الضغوط على الجانب الفلسطيني، إما بفرض الشروط المسبقة، للدخول في العملية التفاوضية، على غرار الشروط التي نقلها إلى القيادة الفلسطينية الرسمية جاريد كوشنير وجيسون غرنبيلات، كالقبول بالمفاوضات في ظل إستمرار الإستيطان، أو وقف التحريض ضد الإحتلال، والتخلي عن إلتزامات السلطة نحو الأسرى وعائلات الشهداء، بذريعة أن هذه الإلتزامات تدعم الإرهاب وتشجع عليه، وإما بإتخاذ قرارات إستراتيجية خطيرة ذات أبعاد كبرى، كالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وحسم وضعها بقرار فوقي، خارج إطار أية عملية تفاوضية متفق عليها بين الطرفين بموجب إتفاق أوسلو (الذي أثبت فشله منذ أيامه الأولى)، وخارج إطار قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالمدينة، بإعتبارها جزءاً من الأرض الفلسطينية المحتلة التي لايجوز الإستيلاء عليها بالقوة، وكذلك بهدف فرض الأمر الواقع على الجميع وتهيئة المسرح السياسي أمام الجانب الإسرائيلي لإتخاذ خطوات لاحقة، تندرج في السياق نفسه.

فبعد القدس، جاء قرار تشييد مليون شقة إستيطانية إستعمارية في الضفة الفلسطينية، منها 300 ألف شقة في القدس وحدها لإغراقها بمليون مستوطن إسرائيلي جديد، وقرار فصل 140 فلسطيني من أبناء كفر عقب ومخيم شعفاط وجوارها عن الحدود الإدارية لما يسمى «القدس الكبرى»، للإخلال بالتوازن الديمغرافي في سكان المدينة، وبما يحول الفلسطينيين إلى أقلية. وقرار تقسيم الضفة الفلسطينية، إلى ثلاثة كانتونات، شمال ووسط وجنوب، وفصلها عن مدينة القدس، وقرار تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات الإسرائيلية ما يعني عملياً ضمها لإسرائيل، وأخيراً وليس آخراً، قرار مركز الليكود ضم الضفة الفلسطينية كاملة، لإسرائيل، مع الحفاظ على سلطة الإدارة الذاتية للفلسطينيين، على السكان، دون الأرض، ما يمهد لرسم ملامح ما يسمى بالحل الدائم للمسألة الفلسطينية.

بدوره ألحق ترامب قراره بشأن القدس بقرار لا يقل خطورة، هو تجميد (أي وقف) مساهمة الولايات المتحدة في تمويل وكالة الغوث، على طريق حلها أو إعادة صياغة تفويضها وحدود مسؤولياتها، جغرافياً وبرنامجياً، عبر تجفيف مواردها، ما يمهد لحل لقضية اللاجئين الفلسطينيين يتطابق مع الرؤية الإسرائيلية، إن في تعريف اللاجئ، أو في وضع حل للقضية عبر تحويلها من قضية تتعلق بـ «حق العودة إلى الديار والممتلكات» إلى

قضية «توفير سكن دائم للاجئ»، ودوماً خارج الديار والممتلكات التي هجر منها أصحابها منذ العام 1948، وخارج منطوق القرار 194 ذي الصلة.

وهكذا نجد أنفسنا أمام حل دائم ونهائي، ترسم الولايات المتحدة، منفردة، بالتعاون مع إسرائيل، خطواته، المندرجة والمتدحرجة خطوة خطوة، لتفرضه على الفلسطينيين، وعلى عموم المنطقة العربية، بالتعاون مع أطراف عربية، تخلت عن مسؤولياتها القومية كما نصت عليها قرارات جامعة الدول العربية، وعن مسؤولياتها الأخلاقية كما نصت عليها قرارات الأمم المتحدة في مجلس الأمن، وفي الجمعية العامة، تتواطأ مع الخطوات الأميركية بذرائع واهية، من بينها الإدعاء أن إسرائيل لم تعد هي الخطر على المنطقة، بل هو الإرهاب الذي تحتضنه وترعاه إيران.

إن ما نحن بصدده، يشكل تطوراً مفصلياً لا يقل خطورة عن الخطوة المفصلية لأنور السادات في زيارة القدس المحتلة وتشريع الأبواب أمام حل كامب ديفيد. إذ لا تقتصر تداعيات ما نحن بصدده على الجانب الفلسطيني، بل تطال المنطقة العربية كلها، وهي تستهدف الشعوب العربية ودولها وثرواتها ومستقبلها، لذلك نقول إن واجب التصدي لا يقع على عاتق الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية الفلسطينية وحدهما، بل يقع أيضاً على عاتق الشعوب العربية وقواها السياسية. فالحل الإقليمي لا يقتصر على الملف الفلسطيني بل يطال المنطقة العربية بل الإقليم كله، في سياسة أميركية متوحشة، تستهدف إخضاع المنطقة كاملة للنفوذ الأميركي المتحالف مع النفوذ الإسرائيلي. وبالتالي فالمعركة هي معركة المنطقة كلها، ما يملي على الشعوب العربية وقواها السياسية، واجب النهوض في مواجهة هذه السياسية، بحيث نتحمل جميعاً مسؤولياتنا القومية والوطنية.

فالقضية لا تقتصر على القدس، بل تتهدد مصيرنا جميعاً. وإذا كان الشعب الفلسطيني يشكل رأس الحرية في التصدي لهذا المشروع، فإن واجب الشعوب العربية وقواها السياسية أن تخوض هي الأخرى معركة الدفاع عن مصالحها ومستقبلها ضد المشروع الأميركي الإقليمي الذي بانت عناوينه وملامحه وخطواته واضحة في خطورتها القصوى.

إنطلقت ردة الفعل على القرار الأميركي، وإرتداداته الزلزالية الإسرائيلية على مسارين: الأول هو الإنتفاضة الشعبية الفلسطينية، والثاني هو التحرك السياسي والدبلوماسي والسياسي، إن في إنعقاد الإجتماعات الإستثنائية لوزراء خارجية الدول العربية، أو قمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، أو في إنحياز 14 دولة في مجلس الأمن لصالح الشرعية الدولية بشأن القدس، أو في الهزيمة التي لحقت بالولايات المتحدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كلها خطوات جيدة لا نقلل من أهميتها، فنحن نؤكد على أهمية الحراك السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية خاصة في الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية، لكن الحراك الذي شهدناه حتى الآن لم يشكل الحد الأدنى من الرد العملي والفعلي على قرار ترامب، وسلسلة القرارات الإسرائيلية الأخرى، ولم يرتقِ إلى مستوى الحدث وخطورته.

أما الإنتفاضة التي تشهدها المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في القدس والضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وداخل مناطق الـ48، وفي الشتات والمهاجر، فلم تتحول حتى الآن إلى إنتفاضة شعبية شاملة تنخرط فيها أوسع القطاعات والشرائح والفعاليات. والسبب بتقديرنا أن هذه الإنتفاضة مازالت تفتقر إلى المظلة السياسية الفلسطينية

الموحدة، التي بإمكانها أن ترتقي بها إلى مستوى الحدث وتحولها إلى إنتفاضة شعبية شاملة، تتحول عبر التراكمات إلى عصيان وطني، في عموم المناطق الفلسطينية المحتلة، يعيد صياغة المعادلة مع الإحتلال، ليحوله بالصدام اليومي، بأشكاله المختلفة، من إحتلال بلا كلفة، إلى إحتلال، يكلفه البقاء في المناطق الفلسطينية المحتلة أكلافاً باهظة، مادياً وإقتصادياً وبشرياً، وسياسياً.

إن توفير المظلة السياسية الوطنية الموحدة للإنتفاضة من شأنه أن يجنبها الدخول في التجربة التي دخلتها تجرية إنتفاضة الشباب التي إستمرت أكثر من سنتين، في بطولات فردية، عطلت الإنقسامات الفلسطينية إمكانية تحويلها إلى إنتفاضة شعبية، وتجربة إضراب الأسرى الذي دام 51يوماً، وإنتهى بمكاسب متقدمة في مواجهة إدارة السجون، رغم أن بعض الأطراف الفاعلة أخلت في تقديم الدعم السياسي والمادي والمعنوي لهذا الإضراب. أو تجربة إضراب إنتفاضة القدس وبوابات الأقصى، التي إستبقت مواقف القيادة الرسمية الفلسطينية وخطواتها بأشواط، فبدت تلهث وراء الانتفاضة بقراراتها التي جاءت متأخرة لأكثر من أسبوع وتحت سقف سياسي، لم تغادر حدود المراوحة في المكان ازاء الموقف العملي من الاحتلال.

المظلة السياسية الواجب توفيرها لهذا الحراك الشعبي، ولعموم أشكال الحراك، داخل المناطق المحتلة وخارجها، هو بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية. والمقصود بذلك وحدة البرنامج السياسي الكفاحي، في الميدان، وفي المحافل السياسية، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء الخروج من أوسلو، والتحلل من إلتزاماته وأهمها التعاون الأمني، والتبعية الإقتصادية لإسرائيل. وبدون هاتين الخطوتين، يبقى الحديث عن الوحدة الوطنية كلاماً منقوصاً، ويبقى الحديث عن الرد على قرار ترامب حديثاً بلا مضمون.

الخروج من أوسلو، ومن التزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية، لا يعني، برأينا، حل السلطة الفلسطينية القائمة. فهذا كلام لا معنى له سياسياً، وهو قفزة انتحارية في الفراغ، خارج إطار أي تخطيط وخارج أي برنامج نضالي واضح المعالم والأهداف والخطوات وآليات العمل. كما أنه لا يعني برأينا الذهاب، كما يدعو البعض، إلى «الدولة الواحدة» الآن وفوراً، لأن «الدولة الواحدة» برأينا، في ظل الظروف الحالية، وموازين القوى والمعادلات القائمة، هي الاعتراف بدولة الآبارتهايد، دولة التمييز العنصري، والاحتلال والاستيطان، والقوانين الصهيونية، وهو ما يوفر غطاءً سياسياً لإسرائيل، لتواصل سياستها المعروفة، دون أي تردد.

إن الشرط الوحيد الذي ينتقل بالسلطة الفلسطينية من سلطة اداري ذاتي للسكان، دون الأرض، ومفوضة من الاحتلال، تسلمت مفاتيحها منه، إلى سلطة تشكل الأساس السياسي والمؤسساتي لدولة تناضل من أجل فرض سيادتها وسيادة شعبها على أرضها، وبحيث يتمتع بحقه في تقرير مصيره، وبالخلاص من الاحتلال والاستيطان... إن الشرط الوحيد هو الخروج من أوسلو، والعودة معاً، في اطار برنامج كفاحي وطني، إلى صفة حركة تحرر وطني لشعب تحت الإحتلال.

فنحن، أساساً، وقبل كل شيء، حركة وطنية، وطريقنا إلى الخلاص من الإحتلال والإستيطان هو المقاومة ببرنامج وطني يجمع بين النضال في الميدان، والنضال في المحافل الدولية، خاصة الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية.

هاتان النقلتان: الوحدة الوطنية، وإستعادة موقعنا كحركة تحرر وطني لشعب تحت الإحتلال، هو ما سيعيد لمنظمة التحرير الفلسطينية طابعها التمثيلي الشامل، ولكن على قاعدة تشاركية وليس على قاعدة إستتباعية، في ظل سياسة التفرد بالقرار السياسي والإداري والمالي والمؤسساتي، وتغييب المؤسسات، وتجاهل الرأي العام، لصالح تشكيلات غير قانونية، وغير دستورية، تعتمد سياسة «المطبخ» بديلاً للمؤسسة.

والوصول إلى هذه الوحدة التشاركية يتطلب إحياء الإطار القيادي المؤقت في م.ت.ف فهو المدخل لإعادة بناء البرنامج الوطني، وهو المدخل لإعادة بناء الوحدة الوطنية التشاركية، وهو المدخل لإطلاق إنتفاضة شعبية مقاومة وشاملة، على طريق التحول إلى عصيان وطني، وحرب شعبية ضد الإحتلال والإستيطان، وضد صفقة القرن، تشكل حقيقة وفعلاً رأس الحربة لحركة شعبية عربية ناهضة على مستوى المنطقة، تتقاطع مع حراك إقليمي، يلتقي في مجابهة السياسة الأميركية ونفوذها في المنطقة، من بينه الحراك السياسي لجمهورية إيران الإسلامية.

ولا بد في هذا السياق، وعلى الصعيد الفلسطيني من إزاحة العراقيل أمام إعادة بناء الوحدة الوطنية، عبر العمل معاً لإنجاز برنامج المصالحة كما توافقت عليه حركتا فتح وحماس، وكما أكدت عليه الفصائل الفلسطينية من حواراتها في القاهرة في 22/11/2017 المصالحة تعني تمكين حكومة السلطة الفلسطينية من تولي مسؤولياتها الإدارية والخدمية دون أية عوائق، وفي الوقت نفسه رفع الإجراءات العقابية والحصار عن قطاع غزة، وتوفير خطط طوارئ تنموية لمعالجة أوضاعه المعيشية المتردية، بما فيها إعادة بناء بنيته التحتية المهترئة، من توفير للطاقة الكهربائية، ومياه الشرب، والنظافة والبيئة وإعادة تأهيل المستشفيات وغيرها من ضرورات الحياة الكريمة لأبناء القطاع. مع التأكيد، وخلافاً لإدعاء كثيرين، أنه لا تناقض بين بندقية الأمن الداخلي، وبندقية المقاومة. فالأمن الداخلي يتعارض مع إزدواجية البندقية. لذلك نحن مع شعار: «بندقية واحدة للسلطة». مع الفصل بين دور بندقية المقاومة، وبين دور بندقية الأمن الداخلي، ويكون لكل بندقية ووظيفة ميدانها.

بقلم/ فهد سليمان