ثمّة حقائق يجبُ الوُقوف عليها لِكي نستطيعَ تحديد مفاهيم الصّراع من جَديد وعلى ضوء المُعادلات والمَشاريع المَطروحة لحلّه ومسيرةٍ طويلة سلكها الشّعب الفلسطينيّ كَما هو الحال سَلكها المشروع الصّهيوني المُتلحّف بثوب اليهودية، فلسطينياً مسيرة جَانَبها الصّواب فِي بعض المحطّات وجانَبها الخَطأ والتّيه والإنقسام في محطّات أُخرى، فالإنقسامات البرمجيّة والسياسيّة في السّاحة الفِلسطينية لم تُثمر وحدةَ برنامج ومواجهةٍ مع المَشرُوع الصّهيوني في حينِ
أنّ التنوّع السّياسي والبَرمجي في إسرائيل لم يُنتج فوارق مُتناقضة رَئيسية وحاسمة على
أبجديّات المشروع الصّهيوني الأساسية، وفي جانبٍ آخر لم يَستفيد الفلسطينيّون من العَلاقة بين المُؤثّر والمُتغيّر في حين أن إسرائيل قد استفادت من تلك العَلاقة على الصّعيد الإقليمي والدّولي.
تدَحرج البرنامج السّياسي الفلسطيني من محطّةٍ إلى أُخرى بأقلّ هُبوطاً في حين تصاعَد البرنامج السّياسي الأمني الإسرائيلي تصاعُداً من أجل نفي الآخر ونفي وجودِه الوطني والسّياسي والتّركيز على الوُجود الإنساني وفَرضيّات الحُلول لأزماتٍ ذات شقّين الشّق الأوّل قيادة فلسطينية لم تَستفيد أو تُحقّق إنجازاً وطنيًا في كلّ مرحلة حتّى الإعتراف الإسرائيلي بمنظّمة التّحرير كمُمثلة للشّعب الفلسطيني هو إعتراف مُؤسّساتي بيروقراطي ولم تَعترف بحُقوق الشّعب الفلسطيني أو وطنٍ ذُو سيادة أو خَريطة جُغرافية لِهذا الوطن، ولذلك قال إسحاق رابين أمام الكنيست أن أُوسلو نصرٌ للنّظرية الصّهيونية والفلسطينيون لا يعرفُون على ماذا وقّعوا.
دخلت منظّمة التّحرير في أَحشاء المُتغير الاقليمي والدولي وأطروحاته من خندقٍ إلى آخر ومن جُرفٍ إلى آخر، وعندما لم تُحسن صناعة فنّ العلاقة في أماكن وُجودها وخاصّة الساحة اللّبنانية والأُردنية وصنعت نفسَها بديلاً مُتأرجحاً بين الثّورة واللّاثورة، وخًرجت بعد ذلك من السّاحة اللبنانية بأسلحةٍ فرديّة ليسَ لها مُؤثر إلا بأوزانٍ من الحَديد الغير مُفعل تأثيره في أماكن الصّراع الحقيقي وباستدراج أمريكي فرنسي إقليمي تحت غِطاء 242 و 338 وبحلّ الدّولتين وعَلى حُدود 67م في حين أنّ إتّفاق أُوسلو لم ينُص على دولة، ولذلك كانت المُواجهة بين عَرفات وإسرائيل الّتي أراد منها عرفات تطوير أوسلو والحُصول على دولةٍ ومُؤسسات دولة.
من مدريد إلى جنيف إلى أُوسلو إلى باريس إلى وايرفر إلى وثيقة عباس بلين عام 1995م والتي تقضي بدولة عام 1999م وصولاً إلى الجمعية العامة كَدولة مراقب والإصطدام بالفيتو الأمريكي، وكلّ مرّة تنخفض فيها مَطالب الفلسطينيين إلى أن وُضعوا في عُمق الجُرف في إتّفاقية باريس والّتي تنفي وُجود أي تصوّر لكيان فلسطيني مستقر ذو سيادة وطنية.
أجمعت الأحزاب الإسرائيلية وليس الّليكود فقط بإعطاء الِفلسطينيين دولة بحُدود مُؤقتة، وبين الدولة واللادولة وضمن محددات أمنية وإقتصادية مُلحقة بالإسرائيليين، وكلّ مرحلة من المراحل تندرج تحت الّلعب بالوقت من قِبل الاسرائيليين، الانقسام الفلسطيني المُبرمج لنزاعاتٍ إقليمية وأُخرى دوليّة فَتح شهيّة الإحتلال للمُضي قُدما في تهويد الضفّة والقُدس، في حين بقيَ البرنامج الفلسطيني في عهد الرئيس عبّاس جامداً يلجأ للدراماتيكا بإنجازات خارجية ليس لها فعلٌ أو إنجاز أو تغيير على الأيقونة الوطنيّة بشكلٍ مُباشر التّي تتًعرض لنفي الوُجود من قبل الإحتلال مع الإبقاء على حالة التشتّت والضَعف والِحصار والتّغوّل في العلاقات الإقتصادية مع الإسرائيليين من قِبل رجال الأعمال والمُقاولين وإحباط أي محاولات لايجاد جبهات منظّمة لمقاومة الاحتلال، وإقتصاد بديل.
كانت لديّ قناعة بأنّ حركة التّحرر الوَطني بِثُوبها المُقاتل وإن تخلّى عن زيّه ليبدُو للاسرائيليين والأمريكان بأنه رجُل سَلام، لن تُقطف أيّ ثِمار أو اتّفاقية سَلام ينجُم عَنها دولة للفلسطينيين وتحملُ اسمَ "فلسطين" ولذلك النظام السياسي الفلسطيني بعد أوسلو وخاصّة في فَترة حُكم عباس استبعد مُعظم الكادر القيادي الذي كانت له بَصمات وتاريخ في حركة التّحرر الوطني واستبدَل ذلك بقُوى أمن ببرنامج دايتون وثقافة دايتون، بل الأكثرُ قسوةً تخلّيه عن الكادر والعُنصر والقائد من قوى الأمن في عهد ياسر عرفات بالإحالة على المعاش وإغلاق الدّائرة السياسية لمنظمة التّحرير في تونس منُذ سنوات، ومؤسّسة الجرحى والشُّهداء والأسرى وإغلاق مكتب التّعبئة والتّنظيم لحركة فتح في تونس وبيع كل املاك منظمة التحرير في لبنان وسوريا والأُردن ودول إفريقية مع إنتشار ظاهرة الفَساد في عمليّة البَيع لصالح متنفّذين في أجهزة عبّاس والبعض في مركزية فتح، وإقصاء وفصل مجموعة من الكادر النشط في حركة فتح.
إسرائيل الآن تملّصت من أوسلو وإستنفذَتها زمنياً، بل انتقلت إلى المُربّع الأخير في برنامجها بإعلان الدولة اليهوديّة والسّيطرة على القُدس والضّفة وإعادة الفلسطينيين لمُربع ما بعد النّكبة مباشرةً، إسرائيل لا ترغب في وُجود وطنٍ وطنيّ للفلسطينيين على أرض فلسطين التّاريخية وبأي حجمٍ ومساحة وله هوية سياسية وامنية واقتصادية سيادية تنفيذاً لمقولتها التوراتية "أرض الميعاد"، ولذلك انطلقت الأُطروحات من قِبل الإسرائيليين وقادتهم من ليبرمان الى مستشار الشّؤون الإستراتيجية في الحُكومة الإسرائيلية ودِراسات مَعهد هرتسل حول مشاريع قديمة وجَديدة من كيان مُستقل للفلسطينيين في سيناء مع ارتباط بقطاع غزة والضّفة تحت مقُولة ضمّها لإسرائيل مع الإبقاء على سُلطات محلّية فيها بقبضةٍ أمنية، ومشروع آخر بضم غزّة للوصاية المصرية وضم الضّفة للأُردن مع توسيع صلاحيّات الأردن ووصايتها على القدس الشريف.
في أوائل الخمسينات أسقطت غزّة مشروع التوسُّع في سيناء ورفض الوطن البديل، وأذكّر هنا بما جاء في مُحاضرة لأبو إياد "صلاح خلف" في عام 1974م: "أسقطت القيادة الفلسطينية مشروع ضمّ غزّة لمصر والضّفة للأُردن وقرّرت القيادة الفلسطينية التّوجه لمؤتمر دولي سياسياً، قائلاً أنّ الأرض الفلسطينية في الضفة و غزّة محكومٌ عليها أن لا تكون فلسطينيّة وتحمل إسم فلسطين، ومخطّط التّوطين ما زال مفتوحاً، فتحي البلعاوي ومعين بسيسو وابو يوسف النجار قاوموا الاستيطان، كانوا بدهم يسوقونا بالعصا نحو سيناء ومجهزين خيام لنا، وأسقطنا هذا المشروع عام 1952م"
إذاً التّاريخ يُعيد نفسه والسّيناريوهات يُعاد صِياغتها من صفقة القرن إلى أُطروحات إسرائيل بالحُلول البديلة للدّولة الفلسطينية ومُناخات التّطبيع الإقليمي مع إسرائيل وصِراعات لِقوى إقليمية وبطرح حل إندماجي لتسويات إقليمية، القيادة الفلسطينية بعد قرار ترامب والأُطروحات الإسرائيلية ما زالت عاجِزة وتدُور في محور المُتغيّر الدّولي ومُؤثّراته وأسقطت من حساباتها مواجهةً مُباشرة مع الاحتلال، إذاً ما هو المُستقبل القادم عبر الشّهور القليلة للشّعب الفلسطيني وإلى أين تسير نتائج الحِصار والعُقوبات على غزة.. فغزّة هي ثِقل الميزان في أي معادلة قادمة، وأخيراً من يُسقط ما يُطرح الآن؟!
سميح خلف