غزة بتاريخها ... اكبر من الجميع

بقلم: وفيق زنداح

غزة التي اكتب منها ... وعنها ... والتي ستبقى محل فخر واعتزاز وايمان عميق انني اكتب عنها بما تمثله من تاريخ ماضي باعتبارها موطني ونشأتي ... والتي تربيت على ارضها ... واكلت من زرعها ... وشربت من ابارها ... استنشقت هواءها ... وعشت على بحرها ... ولعبت برمالها ... وشاهدت اشجارها الخضراء بثمارها الصفراء ... وخضرواتها الخضراء ... عشنا شبابنا ... ووصلنا الي عمرنا الذي نحن عليه .... وما تولد لدينا من خبرة متواضعه ... وعلاقات محدودة ... لكننا بالاغلب والاعم استمعنا من خلال رجال صادقين باحاديثهم ورواياتهم ومواقفهم ... كما شاهدت بأم عيني بعض رجالات غزة ... والتي اعرف منهم الكثير ... وشاهدت البعض الاخر .. لكنهم بمجموعهم وبأسماءهم العديدة رجال الحقيقة والتاريخ والملبين للنداء ... والذين تربوا على الاصول المتعارف عليها والمبادئ والقيم والاخلاق الحميدة ... الذين تربوا على الدين الصحيح ... غير المضخم ... المتوازن بطقوسه ... التي تجسد من خلال علاقاته ومعاملاته مع الناس ... بعطفه ورفقه بالفقراء ... وعدم امكانية أكل مال الاحياء ... فكيف الحال بمال الايتام والمحافظة عليه ورعايته ؟!!! .

مهما كتبت عن غزة هاشم فلن استطيع ان اشكل ملامح الصورة الكاملة ... بكافة تفاصيلها وعناوينها ومراحلها .... وحتى برجالها وعائلاتها ... ولن يتسع المجال لي عبر المقال ان اكتب كل ما اعرف ... وما اشعر به اليوم من حزن شديد ... وألم عميق ... وانا اقرأ عن نداءات الاستغاثة وطلب المساعدة ... وانا استمع الى معاناة الناس وآلامهم والى صراخ الاطفال وجوعهم .... وانا استمع الي الجياع في زمن الترف استمع الى الالام في زمن الاسترخاء والراحة التامة ... استمع الى صراخ الاطفال في زمن المعيشة والرخاء .

استمع الى المحرومين من أكل لقمة سائغة وساخنة ... والى المرضى الذين لا يجدون من يعالجهم بعناية فائقة وبمستلزمات طبية مطلوبة ... استمع كما غيري الي صوت العاطلين عن العمل الذين لا يجدون من يوفر لهم فرصة عمل واحدة ... كما استمع وغيري الي صراخ امهات واطفال ورجال ... يعبرون عن احتياجاتهم بغضب شديد وبصوت يحرك الاحجار والاصنام .

صراخ غزة وانينها ... ومجمل الامها .. وما تشهده تفاصيل حياتها التي نعرفها ... والتي لا نعرفها ... والتي نشاهدها ... والتي لا نشاهدها ... لا تسقط تاريخ غزة التي نعرفها ... وشاهدنا ابرز ملامحها ... وتعرفنا على عظمة رجالها الذين كانوا يتجمعون حول بعضهم البعض وبكافة المناسبات والاحداث ... الذين يشعرون بآلام بعضهم البعض ... ويتزاورون .. ويقدمون المساعدة لكل محتاج وفقير دون ضجيج واعلام ... الذين كانوا يطعمون الفقراء ويقدمون لهم المساعدة بمنتصف الليل والظلام دون ان يراهم أحد .

الناس كانت تعتبر ان تعاونها وتكافلها يقدم من منطلق الواجب الاخلاقي الاجتماعي الوطني والديني ... بحكم علاقات متجذرة ... وتربية راقية ... واخلاقيات مثالية ... وانسانية عالية .

لم نعرف شاشات التلفزة الا في بداية ستينيات القرن الماضي ولم يتعرفوا كثيرا عن اللقاءات الصحفية ... والاذاعات المسموعة ... ولا عن الاعلانات التي تشكر وتقدر ... ولا حتى عن اعلانات التعزية والمواساة ... كانوا يتقدمون ويسيرون على اقدامهم حتى يصلوا الى مكان اداء واجبهم .

غزة التي انتم على ارضها وتعيشون في احضان اهلها ... من عاشوا منذ ولادتهم .. ومن تربوا على اصولها وجذور اجدادها واباءها ... وعلى ايدي رجالها المخلصين ... يعرفون جيدا معنى الاستغاثة والنداء .... ويعرفون جيدا كافة معاني ودلالات ما وراء ان يستغيث انسان بانسان ... حتى ولو كان خارج الحدود ... فكيف والحال بداخل الحدود وعلى بعد بضعة امتار .

وقفات كثيرة ومواقف عديدة اظهرت فيها غزة واهلها انهم قدر الواجب والمسؤولية ... ولم يتأخروا للحظة واحدة عن اداء واجب وطني او اخلاقي او اجتماعي ... كانوا يتنافسون على فعل الخير وايصاله لاهله .

غزة وطوال تاريخها كانت تلبي النداء ولم تتاخر للحظة واحدة .. بل كان الجميع يتدافع برجالهم وشبابهم لمساعدة من يطلب المساعدة ... كانوا يلبون النداء حتى لمن لم يطلب منهم ... لانهم كانوا يعرفون واجبهم ويقدرون الحاجة بميزان من ذهب ... ويشعرون بالام المحتاجين حتى من عيونهم .. فكيف والحال بصرخات الجوع واستغاثة الامهات والاسر التي تعاني ويلات الزمن والحاضر المرير .

هذه المسميات التي نرددها ... ويرددها غيرنا حول الاستغاثة .. وطلب المساعدة ... تشعرنا بمرارة كبيرة ... واهانة لا حدود لها ... لكبرياء غزة .... التي نعرفها والتي عشنا على ترابها وتربينا عقودا طويلة بين اهلها العظماء بعطاءهم والكرماء بما يقدمون ... وبكل تاريخهم الذين لم يعرفون فيه الا العطاء وتلبية النداء ... وتقديم يد العون لكل محتاج .

وحتى يعرف الجميع ... وحتى برغم كافة الالام .. فان غزة ستبقى على كبرياءها وشموخها واعتزازها بنفسها ... ستبقى غزة على تاريخها برغم مرارة واقعها ... وحتى يعلم الجميع ان غزة لا يمكن ان تتسول .. ولا يمكن ان تطلب المساعدة لان دين غزة على الجميع ... والتي لم تطالب به لانها اكرم واقدر واحمل من غيرها ... غزة لم تعش على الشعارات ... ولم تعرف التصريحات ... وليس بقاموسها ثقافة الاستغلال .

أهل غزة المحترمين ... يأكلون من مخزون ارضهم ... ويشربون من ابارهم .. ويتساعدون ... ويتعاونون ... ويخففون من الام بعضهم .

صحيح ان غزة اليوم تعيش المرارة والحسرة ... وضيق الحال ... بعد ان طال انتظارها ... وبعد ان طال صراخ اهلها ... الا انها لن تنكسر ... ولن تقبل بمس كرامتها وعزة اهلها .

نعاني ... نجوع ... لا نعمل ... لا خدمات كافية ... ولا اهتمام ورعاية ... لا راتب ولا مساعدات ... وحتى لا تلبية لاستغاثات ونداءات ... وكأن الامر مبرمج ومخطط ويستهدف اركاعنا واستسلامنا ... وهذا لن يكون ... لمن يعرفون غزة على حقيقتها ... ولمن يعرفون اهلها وعائلاتها وجذورهم وتاريخهم .... وما سقط من تلك العائلات من الاف الشهداء ومن دخل السجون منهم بعشرات الالاف ... ومن جرح منهم بالالاف .

نحن لا نتحدث بالسياسة ... وليس لنا علاقة بالفصائل ... كما ليس لنا علاقة بمن يحكم وبمن لا يحكم .. لكننا نحن اهل غزة ... نتعامل بما تربينا عليه .. بأخلاقنا .. بانسانيتنا ... بوطنيتنا ... بثقافتنا ... وبتاريخنا .

وحتى نعود قليلا الى التاريخ الذي نستمد منه قوتنا ... وتتعزز فيه كرامتنا وعنفواننا وشموخنا ... تتعزز فيه منطلقات فخرنا بأننا ذات جذور .. واصحاب مواقف ... وكان لدينا رجال صدقوا القول والفعل والعطاء .

سنذكركم ببعض الاسماء وليس كلها .. سنذكركم ببعض المهن وليس بمجملها ... سنذكركم ببعض المناطق وليس كلها ... فليعذرني كل من يقرأ ان نسيت او سقط مني سهوا اسما من اسماء عظيمة وشخصية من الشخصيات التي نعتز ونفخر بها .

سأبدأ بالشيخ محيي الدين عبد الشافي والد الدكتور حيدر عبد الشافي ومصطفى عبد الشافي ... منير الريس ... وبشير الريس ... وزهير الريس ... وموسى الصوراني ... الشيخ هاشم الخزندار .... وابراهيم ابو ستة ... وحامد ابو ستة ... ومجدي ابو رمضان ... وزهير الصوراني .. ووديع وكمال ترزي ... وفريد ابو وردة ... ومعين بسيسو ... وسامي ابو شعبان ... ورامز فاخرة ... وخيري ابو رمضان ... وعلى وهاشم هارون رشيد ... وراغب العلمي ... ورشاد الشوا .. اسماء عديدة وذات مواقع محتلفة سياسية .. واجتماعيه .. ومهنية .. وكانوا من المؤسسين والمشاركين والاعضاء الفاعلين بمنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها ... كما الداعمين لجيش التحرير الفلسطيني الذراع العسكري لمنظمة التحرير .

كما ان هناك من الاسماء التي كانت مؤسسة للمجموعات المقاومة للاحتلال الاسرائيلي ونذكر منهم ... محمد الاسود (جيفارا غزة) الذي أسس مجموعات الجبهة الشعبية ... وهشام زينة ... وعطا ابو كرش ... وعارف عاشور ... الذين اسسوا المجموعات الاولى والخلايا الاولى لمجموعات حركة فتح المقاومة ولن انسى ضباط جيش التحرير

... محمد ابو الفتح .. وحسين الخطيب .... وزياد الحسيني .. ومجموعات قوات التحرير الشعبية .

غزة وعبر تاريخها وصوتها الذي كان ينطلق من ساحة الجندي المجهول .... عبر صوت على وهاشم رشيد غزة التي استقبلت أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير ببداية التأسيس وقامت على تدريب قوات جيش التحرير ببداية التأسيس ... هي ذاتها غزة التي استقبلت الشهيد الخالد الزعيم ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية ومعظم قيادات الفصائل الوطنية وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس .

غزة هاشم التي احتضنت مؤسس حركة حماس الشيخ المجاهد أحمد ياسين الذي كان يعمل مدرسا بمدرسة الكرمل الابتدائية وانا كنت أحد تلاميذه .... هي ذاتها غزة التي احتضنت الشهيد خليل الوزير او جهاد .. وكمال عدوان .. وابو يوسف النجار ... وصلاح خلف (ابو اياد).. غزة التي احتضنت الدكتور المؤسس لحركة الجهاد الاسلامي الدكتور فتحي الشقاقي والشهيد أبو علي مصطفى الامين العام للجبهة الشعبية .

هذه غزة التي نتحدث عنها اليوم .. ونتحدث عن شهداءها ومن فارقونا عند ربهم ... يتواجد على ارضها الكثير من القادة والشخصيات الوطنية والتي نحترمها ونجلها ونقدرها كما يوجد على ارضها اليوم ما يقارب 2 مليون فلسطيني بكل كبرياءهم وكرامتهم وشموخهم وعزتهم ... بكل ما بداخلهم من الام واحزان ... عندما يطالبون بالوقوف معهم ... فهم يطالبون بحقوقهم .... وبما لهم من دين مستحق اذا ما اعتبرنا ان ما تم تقديمه يأتي في اطار الدين والاصل انه في اطار الواجب الوطني والاخلاقي والانساني لغزة واهلها .

لا ننكر على أحد ونخص السلطة الوطنية الفلسطينية والقيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس ومنظمة التحرير الفلسطينية وكافة فصائل العمل الوطني والاسلامي والشخصيات القيادية والوطنية .... ولن ننسى أحد والذين يقدمون الدعم والمساندة لقطاع غزة في اطار واجبهم الوطني والاخلاقي والانساني ... لكنني اقولها وبصراحة وبقلب يعتصره الالم ... وانا أحد ابناء هذا الوطن... ان غزة لا تستحق ما يجري لها ... ولا تستحق ان يخرج منها استغاثة لأحد ... او نداء طلب بالمساعدة ... لان كل من يقرأ ويسمع يعرف الحقيقة... ان غزة اكبر من الجميع .

بقلم/ وفيق زنداح