الموت هو قدر من أقدار الله تعالى، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يفر من هذا القدر، وهو القدر الذي لا نملك سوى الامتثال له، رغم مرارة طعمه، وقسوة سطوته. فالموت يوجعنا نحن الأحياء، ويؤلمنا بعد رحيل الأموات، حين يقتحم البيوت دون استئذان فيأخذ من بيننا أطيب الناس وأعزهم على قلوبنا، ويسرق منا جمال أعينهم وإشراقة وجوههم، ويحرمنا سماع حنين أصواتهم وكلماتهم العطرة، فيبقى الدعاء أجمل حديث بيننا من بعد رحيلهم. اللهم ارحم من خطفهم الموت واجعلهم يبتسمون فرحاً في جنتك يارب العالمين.
وفي صباح يوم السبت 28 كانون ثاني (يناير) عام 2017، فقد غيّب الموت الحاج/ عبد الرحيم عبد المحسن محمد سكافي (أبو العبد)، المناضل القدير والأسير السابق ووالد الشهداء والأسرى ورئيس لجنة أهالي الأسرى في الخليل، الذي رحل بعد صراع مع المرض، عن عمر يناهز72عاما، قضاها في خدمة وطنه وشعبه.
"أبو العبد سكافي"، عرفته منذ سنوات طويلة، وقرأت عنه وعن عائلته الكثير، وتابعت خطواته وتحركاته وزياراته لبيوت الأسرى، واستمعت لتصريحاته وكلماته مرات كثيرة عبر وسائل الاعلام المختلفة وخلال مشاركته في الفعاليات الوطنية، والتقيته للمرة الأولى في العاصمة اللبنانية (بيروت) عام 2013 لبضعة أيام، لتزداد معرفتي به وتتعمق علاقتي معه، فكان لقاء جميلاً، وكان الرجل عظيما ورائعا ومن أروع من تعرفت عليهم والتقيت بهم، فحفر اسمه عميقاً في ذاكرتي ووجداني وأبقى صورته راسخة في فؤادي وازددت فخراً واعتزازاً به، وحرصت على التواصل معه. فهو الأب الذي لا تمل مجالسته، وهو الرجل العجوز المحمول بالهّم والوجع، الذي كلما تقدم بالعمر، ازداد تسلحاً بالأمل، وهو الصديق ان فارقته تسعى للتواصل معه ومحادثته عبر الهاتف لحين تكرار اللقاء من جديد. فهو رجل عظيم يحمل رسالة وطن محتل وعذابات شعب يقاوم الاحتلال من أجل أن يحيا حرا وكريما.
"أبو العبد"، ناضل بروحه ووقته، وقاوم الاحتلال بكل الأشكال والوسائل المتاحة، وقدم أبناءه وأحفاده شهداء وأسرى فداء للوطن والقضية، وكان صديقاً ورفيقاً للفدائيين منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وتنقل معهم ونام في مخابئهم وشاركهم النضال ومقاومة الاحتلال، وفي التاسع من ايلول (سبتمبر) عام 1969، حاصره الجيش الإسرائيلي مع مجموعة من الفدائيين في كرم العنب، وأطلقوا عليه وابل من الرصاص، فأصابوه إصابات بالغة، ومن ثم احتجزوه ونقلوه بطائرة الهيلوكوبتر الإسرائيلية إلى مقر الحكم العسكري الإسرائيلي، وبعدها نقلوه الى مستشفى عالية وتركوه في احدى الغرف مقيد الأيدي والأرجل ينزف دما دون رعاية، ظناً منهم أنه في طريقه إلى الموت، وشاء القدر أن يبقى حيا لينجو بأعجوبة، حاملاً الرصاص والشظايا في جسده شاهدة على جرائم الاحتلال وبطشه، ومن ثم فرضت عليه الاقامة الجبرية لحين أن تم إبعاده إلى الأردن، وهناك بدأت مرحلة جديدة من النضال في حياة هذا الرجل قبل أن يعود للخليل بعد نحو ثلاث سنوات ويواصل مسيرته الكفاحية.
عاد أبو العبد إلى الوطن، ليمتزج المنفى بالحضور، ويستمر في نضاله وتربية أبنائه وتعزيز انتمائهم للوطن، وبث روح المواجهة والمقاومة لديهم، فكبّروا وسط أسرة مناضلة وفي أجواء وطنية، فانخرطوا في مواجهة الاحتلال وجميعهم دخلوا السجون الإسرائيلية وذاقوا مرارتها وعانوا قسوة سجانيها وذلك خلال الانتفاضتين (الحجارة1987 والأقصى2000): خضر ومحمد ويوسف ومهند وفهد وعلاء، ويصبح بيته وعائلته هدفاً للمحتلين الذين رأوا في هذا الرجل ملهماً للناس ومحرضا لهم، وأبا لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى والمعذبين الذين انتخبوه رئيسا للجنة أهالي الأسرى في محافظة الخليل، فكان متحدثاً باسمهم وصوتاً صادقاً يُعبر عن معاناتهم وآمالهم، ومدافعا قوياً عن قضاياهم وحقوقهم. ولم يكن عوناً لأسرى الخليل وحقوق عوائلهم فقط، وانما كان صوتاً لكل الأسرى وسندا لقضيتهم العادلة.
ومن يدخل بيت "أبو العبد السكافي"، يشم رائحة الشهداء والأسرى (الشهداء مع وقف التنفيذ)، ويرى على جدرانه صور الشهداء والأسرى، وهدايا من السجون ولوحات فنية نقشت عليها كلمات مشرقة ورسوم لوجوه تشع بالأمل. فقد استشهد حفيده (أحمد) على يد قوات الاحتلال، حين كان طفلا عمره 15 عاما عندما طرزت جسده رصاصات المحتلين، ومزقته إحدى القذائف، وتركت جثته نهشا لكلابهم المتوحشة. كما وفقد "أبو العبد" حفيدته الصغيرة "عبير" (10سنوات)، ابنة ولده "يوسف" القابع في السجن الإسرائيلي، حيث توفيت الطفلة، عندما رأت والدها على شبك الزيارة وحاول السجان ابعادها عنه فأصيبت بمرض عصبي خطير، وعانت طويلا حتى سقطت شهيدة المرض والأسئلة المؤجلة والحزينة وهي تقول: أين أبي..؟
وما يزال اثنين من أبنائه يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2004، هما: "يوسف" المحكوم أربع مؤبدات و"علاء" المحكوم بالمؤبد.
"أبو العبد السكافي"، المدافع القوي عن حقوق الأسرى وقضيتهم العادلة، بأي دمع نبكيك، وبأي الحروف نرثيك، وبأي الكلمات سنوفيك حقك، وأي العبارات تلك التي يمكن أن تنصفك، فلقد رحلت وتركت سيرة طيبة وما زلت حيا فينا، وغيبك الموت وبقيت حاضرا بيننا، ورحلت دون وداع نجليك الأسيرين ولم يوجعك الرحيل الأبدي، انما أوجعنا جميعا فراقك، وأوجع الأحياء من بعد موتك. فكم هو بشع الموت وقاسي، وكم غيّب الموت من صاحب وحبيب وعزيز وقريب.
ويبقى رحيلك مُرٌ يا أبا العبد.. عام على الرحيل واسمك محفور في ذاكرة الوطن وسيرتك الطيبة لا تزال حاضرة في قلوب من عرفوك فأحبوك.
بقلم/عبد الناصر فروانة