ما صرح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول عدم احترام الفلسطينيين للولايات المتحدة الأمريكية يظهر بوضوح عدم إلمام هذا الرجل بقواعد الصراع في الشرق الأوسط فهو يتحدث وكأنه آت من عالم لا صلة له بهذا العالم الذي تحكمه قواعد وآليات وأسس لتسيير الأمور فيه منذ بدء الخليقة وإلى الآن.
ظن هذا السيد الأمريكي أن الفلسطينيين سيستقبلونه بالورود والرياحين وبالولاء والطاعة بعد أن طمس تضحيات سنين طوال من الصراع مع العدو الصهيوني وملك اليهود أرضهم وقدسهم .
لم يدرك هذا السيد الأمريكي أن عهد الكاوبويات قد ولى وانتهى وإلى غير رجعة فما حققه الرجل الأبيض في أرض ' الهنود الحمر' كان في عهد التسلط والسطوة والجبروت ضد كل ما لا يمت للعنصر الأوروبي بصلة .. وعليه أن يدرك من الآن فصاعداً أن فلسطين والمنطقة العربية ليست مزارع أمريكية تحكمها كاوبويات أمريكا تقسم ميراثها على من تشاء فالعرب موجودون رغم الإعياء المهيمن عليهم فقد سبق لغيره وأن استغل ذات الظروف التي يعيشون في ظلالها وحاول الهيمنة عليهم لكنه انتهى ودفن آماله وأحلامه في الصحراء العربية وستنتهي أمريكا كما انتهى من قبلها وسيبقى العربي ابن هذه المنطقة السيد الأوحد لها شاء من شاء وأبى من أبى.
ترامب بانحيازه السافر للعدو الصهيوني تمادى بالاستخفاف بالحق الفلسطيني والعقل العربي ، فهو إلى جانب عدم احترامه للقيم والعدالة والنزاهة لقضية شعب أسهمت بلاده والأمم المتحدة ومجلس أمنها في صنع مأساته ها هو يكمل ذات الأدوار منذ بلفور وعصبة الأمم وبريطانيا المنتدبة والمجرمة في العبث بقضية شعب لطالما كانت وستبقى سبب تفجر الأوضاع في المنطقة ، وأنه بأفعاله كالقشة التي تقصم ظهر البعير والتي لن تبقي ولن تذر من آثار العدوان والمس بكرامة شعب وأمة هدرت حقوقها بالكامل جراء اجتهادات خاطئة ممن كانوا يتوسمون الخير فيمن يمالئون من الطامعين في هذه المنطقة .
فما صنعه قد جاء بعد عقود من سياسة التخدير والترويض التي اتبعتها بلاده ظاناً أن الوقت قد حان لقطف ثمار هذه السياسة الرعناء الأمريكية بالنسبة لمجمل القضايا التي تخص الكيان العربي وكأن الأمور قد أصبحت في متناول يد السيد الأمريكي كاوبوي أمريكا والشرق الأوسط برمته. فما قام به سيد البيت الأبيض عبد الصهيونية العالمية والمحفل الماسوني ينم عن عدم إدراك أو تجاهل لكل القيم التي تربط المجتمعات العربية والإسلامية في الشرق الأوسط خاصة .
تصرف وكأن فلسطين والأقطار العربية والإسلامية جزءاً من ممتلكات بلاده يتصرف بها وفق أهوائه فيقدمها لمن يشاء من أتباعه فوهبها لليهود الذين ظلمهم الجنس الأوروبي الذي هو منهم وإن أراد إنصافهم يكون على حساب الرجل الأبيض وليس على حساب شعب يعيش في أرض السلام المقدسة كل البشرية مدينة لها بمعتقداتها.
الرئيس الأمريكي حين يتحدث لا يدرك جريرة ما قام به والذي نبع من اعتقاده الخاطئ أن الكعكة الفلسطينية هي بداية البدايات لوضع اليد على باقي ممتلكات العرب الاقتصادية والثروات ليبقى حال العرب اليوم على ما كان عليه حالهم أيام داحس والغبراء لكن بعد تجريدهم من الكرامة التي لطالما يتغنون بها .
ترامب بانحيازه السافر للصهاينة وضع النقاط على الحروف في الحل وهو منح اليهود السيادة على المنطقة العربية من خلال الاستيلاء على القدس أولاً بكاملها والباقي وفق ظنونه أمره سهل أمام العجز العربي أو عدم توفر النوايا الصادقة للوقوف بحزم أمام هذا الخطر الصهيوني الجاثم والذي ما كان له أن يكون لولا وضع مختلف القضايا العربية في سلة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعبث بها وفق مقتضيات الأحوال الأمريكية وهيمنتها الاقتصادية النابعة من فرض سطوتها العسكرية على الشجر والحجر في المنطقة العربية .
ولو عدنا إلى الخلف قليلاً فإن الفلسطينيين الآن يدفعون ثمن الشراك التي نصبت لهم في سبعينيات القرن الماضي بالاقتناع بما روج له البعض حينذاك بأن القضية الفلسطينية أمام الدعم الأمريكي اللامتناهي للعدو الصهيوني مستعصية الحل والحل بيدها ، غائباً عن ظنهم بأنها العدو الأكبر والأوحد للقضايا العربية والإسلامية والإنسانية على وجه العموم والحلم الفلسطيني على وجه الخصوص وأنها السبب المباشر وغير المباشر للمأساة الفلسطينية وهذا وفق دهاقنة ومحللين سياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها فتم منذ ذلك الحين وضع بيض العرب والفلسطينيين عن قصر نظر وعدم إدراك للمخاطر الكبيرة الذي ترتب عليه وضع كل قضايا الأمة المستعصية الحل في سلال أمريكا مع أنها هي المتسببة في جل تلك القضايا ، فأخذت تعبث بأمن واستقرار كل مجتمع عربي وإسلامي فمزقت مختلف تلك المجتمعات من خلال صراعات داخلية في كل قطر منها وصراعات مع من يحيطون بها وبين كافة مكوناتها والعبث بأمنها واستقرارها من خلال رجال مخابراتها وضغوطها الاقتصادية عليها.
وكان في كل تقارب ما بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وأمريكا يعتقد أنه تم تحقيق إنجاز فقادتهم أمريكا في نهاية المطاف لأوسلو ونحن نرى ما أوصلتنا إليه أوسلو .. فجاء ترامب كما يقول المثل ' ذاب الثلج وبان ما تحت المرج ' تشليح الفلسطينيين من كل مفاتيح اللعبة بعد تسليم قدس الأقداس لليهود ، فوقفوا مشدوهين أمام ما ورطوا فيه أنفسهم بأنفسهم جراء سيرهم في نصائح الآخرين بالنسبة لقضيتهم وإن تم الابتداء في القدس فغداً أو ما بعد غد ستعلن أمريكا اعترافها بيهودية الدولة ويجري ترحيل الفلسطينيين إما إلى سيناء أو إلى الدول العربية المجاورة خاصة الأردن أو أي أجزاء من العالم فالمركب الفلسطيني في رحلة المخاض هذه يتجه إلى أين في ظل الزمن العربي الصعب ؟!.
* عبدالحميد الهمشري
كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني