قطاع غزة على وشك الانهيار، إن لم يكن قد بدأ بالانهيار فعلًا، نتيجة أسباب كثيرة، أهمها الحصار الإسرائيلي الذي حوّل القطاع إلى أطول وأكبر سجن جماعي عبر التاريخ، جراء السياسة التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية، والتي عبّر عنها مؤخرًا وزير الحرب أفيغدور ليبرمان بوقاحة منقطعة النظير من دون أن تواجه برد عالمي مناسب، بقوله إنّ رأس غزة يجب أن يبقى طافيًا فوق الماء، في دلالة إلى أن إسرائيل تعاقب غزة، ولكنها لا تريدها أن تغرق حتى لا تنفجر في وجهها، ولا أن تصل إلى بر الأمان حتى لا تقف على قدميها وتستعيد دورها في الكفاح ضدها، ولكي تبقى تحت رحمتها، بهدف كسر إرادتها حتى ترفع الراية البيضاء وتعترف بإسرائيل، وتوافق على نزع سلاحها ووقف تطويره والحصول عليه، وتهدم الأنفاق وتوقف بناءها، وتسلم الجثث والأسرى الإسرائيليين المعتقلين في القطاع.
نعرف جيدًا ما يريده الاحتلال وحماته في واشنطن من الحصار والعدوان على القطاع، لدرجة عدم وجود حاجة لعرض ذلك في هذا المقال، إلا أن ما يطرح التساؤل والتعجب أسباب وضع الإجراءات العقابية واستمراراها من جهة، وعدم تحقيق المصالحة من جهة أخرى رغم الترابط ما بين الأمرين.
إذا افترضنا جدلًا أن انهيار غزة وقع، فلا يتصور أحد أن البديل عن سيطرة "حماس" على غزة هو عودة السلطة الشرعية، لأنها أضعف من أن تقدر على ذلك، وربما لأنها لا ترغب في تحمل أعباء القطاع، وإنما البديل وقوعه في الفوضى والفلتان الأمني، واندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة مع إسرائيل في ظروف غير مناسبة للفلسطينيين.
إذا أخذنا التبرير الذي قدمته السلطة وأنصار الإجراءات العقابية نجد الحجة الأكبر أن "حماس" نفذت "انقلابًا" على السلطة، وهي تقود القطاع، وتجبي الضرائب والرسوم، وتدير الوزارات والأجهزة الأمنية، وعليها أن تتحمل المسؤولية كاملة عما اقترفت أياديها، فلا يجب أن تحكم وتتمتع بمزايا الحكم، وتدفع السلطة فاتورة الحكم، ويضيف هؤلاء أن هذا ما كان يجب أن يحدث فور وقوع الانقلاب.
ويبررون الإجراءات العقابية بأنها أجبرت "حماس" على حل اللجنة الإدارية وتسليم الحدود والمعابر، واستمرارها هو الذي سيجبرها على التخلي الكامل عن الحكم، وتمكين "حكومة الوفاق الوطني" من فرض سيطرتها الكاملة على القطاع. وتصل الأمور عند بعضهم إلى حد عرض تصورات مرضية عن الطائرة المخطوفة وأولوية القضاء على الخاطفين مهما كان الثمن، حتى لو كان عقوبات جماعية على مليوني مواطن.
لمناقشة وجهة النظر السالفة نورد ما يأتي:
أولًا: إن "انقلاب" "حماس" ليس تقليديًا ولم يحدث في بلد عادي، وإنما "انقلاب" بين قوسين. فالطرف الذي نفذه جزء من السلطة الشرعية، وحصل على أغلبية في آخر انتخابات تشريعية، ورغم ترؤس إسماعيل هنية لحكومتي "حماس" و"الوحدة الوطنية" إلا أنهما لم تمكنا من الحكم من إسرائيل وأطراف داخلية وخارجية، ووصلنا إلى وضع "إذا لم تتغد "حماس" بخصمها فإنه سيتعشى بها". وهذا لا يبرر "الانقلاب" ولكنه يفسره ويبرز خصائصه.
ثانيًا: إن الرئيس وحركة فتح انطلاقًا من الخصائص المذكورة وغيرها، وخاصة أن فلسطين، بما فيها الضفة والقطاع، تحت الاستعمار الصهيوني الاحتلالي العنصري، لجؤوا إلى الحوار الذي أفضى إلى اتفاق المصالحة الذي وقع في القاهرة العام 2011، وملحقاته من "إعلان الدوحة" 2012، مرورًا بـ"إعلان الشاطئ" 2014، وانتهاء بـ"اتفاق القاهرة الجديد" 2017.
ولو كان ما حدث انقلابًا فقط لم يكن الحوار هو الوسيلة، لأن ما كان مستحيلًا أو يجب تحقيقه بالقوة لا يتحقق بالحوار.
إن اللجوء إلى الحوار يعني قبولًا ضمنيًا بالمسؤولية المشتركة – وإن المتفاوتة حسب وجهة نظر كل طرف - واستعدادًا للمساومة التي تجسد الشراكة، والتي لا يمكن أن تقوم إلا على حل يخرج منه الجميع منتصرين على أساس معادلة لا غالب ولا مغلوب، على عكس ما يجري حاليًا، ويجعله محكومًا بالفشل.
ثالثًا: إن التطورات الأخيرة ما بعد قرار ترامب تنذر بمخاطر فرض حل يسعى لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، ويستهدف الجميع، لذا لم يوافق عليه أي طرف فلسطيني، ما يستدعي التوحد لإحباطه.
تأسيسًا على ما سبق، وكما قلنا وغيرنا مرارًا وتكرارًا، ونكرره الآن، تكمن معادلة الحل في تخلي الرئيس و"فتح" عن الهيمنة والتفرد ومحاولات استعادة السلطة في القطاع، من خلال إسقاط "حماس" وإقصائها، والتعامل معها في أحسن الأحوال كأقلية، بحيث لا تكون قادرة على المنافسة، ولا أن تهدد سيطرة القيادة التي تتحكم بالقرار والمؤسسات الفلسطينية في السلطة والمنظمة.
كما على "حماس" أن تكف عن محاولاتها للاحتفاظ بالسيطرة الانفرادية على القطاع، تارة مباشرة من خلال استلام الحكومة بمفردها، وعبر السيطرة على مختلف مصادر القوة المالية والأمنية والإدارية، وتارة أخرى بشكل غير مباشر من خلال التخلي عن الحكومة وإبقاء السيطرة على مصادر الحكم، جراء عدم القدرة على تحمل المسؤولية وخشية من انفجار الغضب الشعبي في وجهها.
لا يعقل ممارسة عقاب جماعي على القطاع وجعله ضحية تجاذب ما بين "فتح" و"حماس"، حتى لو كانت نتيجته انهيار القطاع وانفجاره، وحتى لو كانت المخططات الأميركية الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية تسابق الزمن في محاولة لاقتناص الفرصة التاريخية التي تلوح لإسرائيل في ظل التوهان والانقسام الفلسطيني وتردي الوضع العربي، لدرجة يتصور بعض الدول العربية أن إسرائيل يمكن أن تكون صديقة وحليفة مع أنها تبتلع القدس، وتواصل الضم الزاحف للأرض، وتعمل على تصفية قضية اللاجئين، وتنفض الغبار عن مخططاتها لاستكمال إبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، وطمس هويته الوطنية، وتبديد حركته الوطنية ومكتسباته التي تحققت بنضال أسطوري مديد ومستمر رغم كل الظروف، وهو قادر إذا توفرت المتطلبات الضرورية على الاستمرار حتى إنجاز أهدافه وحقوقه الوطنية.
لا يمكن مواجهة الانقسام بالخضوع للواقع والعمل لإدارة الانقسام والتعايش معه، ولا بتقديم المبادرات التي تؤدي بغض النظر عن النوايا، إلى المزيد من الانقسام والتشظي، ولا بإعادة تجريب ما سبق تجريبه، ولا بتحويل الانقسام إلى انفصال ما بين الضفة والقطاع، ولا بتوهم إمكانية قيام إدارة مستقلة أو "دولة" في غزة بمعزل عن الكل الفلسطيني، وإنما بإعادة الأمور إلى نصابها، عبر إعادة الاعتبار للقضية، ووحدتها مع الشعب والأرض، ومراعاة الظروف الخاصة لكل تجمع من دون المساس بما يجمع الفلسطينيين.
إن المدخل لتحقيق ذلك يمكن أن يكون بالعمل على تشكيل جبهة إنقاذ وطني تضم كل الوطنيين الحريصين على صون المصالح والحقوق الوطنية والديمقراطية، بحيث تكون جبهة تتسع للمستقلين وعابرة للفصائل، بمن فيهم أبناء "فتح" و"حماس"، على أن تضم كل من يؤمن بأن الوحدة على أساس الشراكة الوطنية والديمقراطية التوافقية طريق الانتصار. وتسعى من خلال الضغط السياسي والجماهيري المتراكم لفرض إرادة الشعب على الجميع بحيث لا يمكن أن تبقى غزة تحت الحصار وعلى حافة الانهيار التام، ولا أن تبقى القدس في بطن الحوت، والأسرى خلف القضبان، ولا السماح بتهجير اللاجئين مرة أخرى أو توطينهم، ولا تترك بقية الضفة لزحف غول الاستعمار الاستيطاني، ولا فلسطينيي الداخل تحت الفصل العنصري.
لا يعني ما سبق أن على غزة والقدس واللاجئين والأسرى الانتظار حتى تطوى صفحة الانقسام أو حتى يستيقظ المارد العربي أو الإسلامي أو الأممي، فلا بد من خطوات عاجلة إسعافية الآن الآن وليس غدًا وقبل فوات الأوان، وخصوصًا لمنع انهيار قطاع غزة، والنداء يجب أن يوجه للفلسطينيين، وبالذات للقادرين منهم، قبل أن يوجه إلى العرب والمسلمين والأحرار في العالم كله.
بقلم/ هاني المصري