لاعزاء للعرب فيما وصلوا إليه من سقوط الى قعر دون قرار . إذ كلما وصل العرب الى قَعْر ما ، تبين لهم أن هنالك المزيد من السقوط و أن القعر هو قعرٌ متحرك ولكن الى أسفل . و أصبح العرب ، وللمرة الأولى ، غير قادرين حتى على التغني بالأمجاد ، و أصبحت مقولة " أمجاد يا عرب أمجاد " مدعاة للسخرية من الذات ، و إبتدأ العرب في تمزيق أنفسهم ومن ثم تمزيق بعضهم البعض دون رحمة أو مواربة . و أصبح التغني بالعرب والعروبة و القومية العربية التي ارتبطت في ذهن الناس بأمجاد عصر عبد الناصر وحقبة النهوض القومي أمراً مشكوكاً بصحته لدى العديدين .
وبعد عقود من الهزائم والإنحطاط التي إبتدأت بهزيمة العرب في فلسطين 1948 ، وهزيمة الناصرية بعد حرب 1967 ، و من ثم هزيمة السادات لعروبة مصر و دورها المحوري في قيادة الأمة بعد معاهدة كامب ديفيد ، و هزيمة حزب البعث العربي الاشتراكي لنفسه و للعقيدة القومية التي بَشَّرَ بها من خلال تبعيته الذليلة لأنظمة حكم استبدادية دموية متوحشة ساهمت بالنتيجة في تدمير الدول التي تحكمها في العراق و سوريا ، ناهيك عن استمرار مجموعة من أنظمة الحكم الاستبدادية الأخرى و التي تَشَدَّقت بكونها أنظمة قومية عربية في الحكم إلى أن دمرت البلاد التي تحكمها ، كل ذلك لم يسهم في إضفاء أي رونق أو بريق على دور الحركات القومية العربية في العقود الأخيرة بعد أن أدت في النهاية الى إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه الآن من إنكسار وبؤس و دمار وتدمير للروح قبل الجسد . وقد أدى ذلك مؤخرا الى تنامي الرفض العلني من قَبِلْ الكثيرين لموضوع العروبة و الرابطة القومية العربية و الذي وصل إلى حد إنكار وجود أمة عربية . وفي النتيجة طفى الى السطح بحكم التلاشي الممنهج للآخرين أنظمة بالية لها تاريخ سيء معروف في تدمير طموحات الأمة العربية و التآمر عليها و أصبحت تلك الأنظمة الآن هي القائدة لما تبقى من العالم العربي ، وهي القائمة فعلاً على تصفية ماتبقى فيه وله من آمال و طموحات وعلى رأسها القضية الفلسطينية .
المأساة ما زالت قائمة ومازالت تتكرر . أوطان العرب في معظمها مرتبط بحاكم واحد مستبد حتى الثمالة . وحتى لا نكرر ماهو معروف و مكروه ، على العرب أن يعترفوا أولاً بأن ما هم فيه هو من صنع أياديهم وليس مؤامرة أو إختراعاً غربياً أو شرقياً ، و اذا ما أرادوا أن يلوموا أحداً على ما هم فيه ، عليهم أن يلوموا أنفسهم أولاً و أخيراً .
الأمة العربية مقسمة الآن الى اثنان وعشرون دولة كل واحدة منها تعتقد أنها كيان مستقل ذا سيادة ، في حين أن سيادتها في الواقع محصورة فقط بسيادة الحاكم على مواطنيه . أما سيادة الدولة تجاه الآخرين فهي في الغالب إما معدومة أو منقوصة بحكم خنوعها وخضوعها لتعليمات أو نفوذ دول أخرى . ويعزز ذلك إستعداد الحاكم المستبد لمقايضة جزء من سيادة الدولة التي يحكم مقابل دعم الآخرين لوجوده واستمراره في الحكم بالرغم عن إرادة شعبه .
إن خضوع وطن بأكمله لحُكِّم ومزاج و إرادة فردٍ واحدٍ هو أمرٌ حَدَثَ تاريخياً لكل الأمم . ولكن الامم التي تجاوزت هذا الأمر هي التي أصبحت شعوباً متقدمة راقية تتبنى النهج الديموقراطي و التداول السلمي للسلطة ، في حين أن الشعوب التي فشلت في التخلص من حكم الفرد المستبد هي الشعوب المتأخره التي لم تستطيع مواكبة ركب الحضارة والسمو بنفسها الى مراتب الدول المتقدمة . الى هنا و الكلام مفهوم ، ولكن غير المفهوم هو الكيفية التي تسمح بها الأمم للحاكم الفرد أن يقوم بنهب بلده وتدمير مؤسساتها و سَلْبِ مصادرها الطبيعية وتحويلها الى مزرعة مستباحة له ولعائلته لعشرات السنين بالرغم عن الطريقة التي أوصلته أصلاً الى الحكم وهي لا دستورية وغير شرعية ، ومثالاً على ذلك حكم القذافي لبلده ليبيا على مدى أربعين عاماً .
القضايا و التحديات التي تجابه الشعوب العربية هي قضايا شائكة ومصيرية تحتاج الى تكاتف الجهود و وضوح الرؤيا و المسؤولية الجماعية المؤسسية في اتخاذ القرارات . أما أن تُتْرك عملية اتخاذ القرار في قضايا مصيرية بيد فرد واحد هو أمر يسيء الى العرب و العروبة و لا يمكن فهمه أو تفسيره أو القبول به .
إن تدهور الواقع العربي الآن بشكل متزايد و متسارع سوف يزيد من وحشية ماتبقى من الأنظمة العربية الحاكمة المستبدة في قمع شعوبها لتمكينها من الاستجابة للضغوط الأمريكية لإعطاء مزيد من التنازلات لإسرائيل والى الحد الذي قد يجعل من تلك الأنظمة و الدول التي تحكمها تابعاً لإسرائيل تدور في فلكها سواء في الظاهر أو في الباطن . وما هو في الباطن قد ابتدأ في الواقع بالانتقال الى الظاهر وبشكل رسمي . وقد قفر عرب الخليج قفزاً إلى ذلك المسارغير عابئين بأثر ذلك على مصالحهم وعلى عمقهم العربي أو على هويتهم العربية و إنتمائهم لها أو حتى على مستقبلهم وسلامة وضعهم الإقليمي ، و ربما بالنتيجة تحولهم هم و ثرواتهم الى ظل للنفوذ الاسرائيلي ناهيك عن التبعية له .
يبدو أن معظم الأنظمة العربية قد وصلت الى قناعة بأنها تريد الخلاص من القضية الفلسطينية وأعبائها وذيولها . وقد جاء هذا في وقت تميل فيه كل موازين القوة لصالح إسرائيل . ولا يعلم أحد الحكمة من وراء هذا التوجه وهذا التوقيت ، ولكن نتائج هذا القرار سوف تكون في النهاية وخيمة على العرب ، اللذين قد يصحوا يوما ليجدوا أنفسهم يعيشون في ظلال التبعية لإسرائيل خصوصاً وقد حولت إدارة ترمب أمريكا الى ناطق شرس بإسم المصالح الاسرائيلية ومدافعاً عنها دون أي إعتبار للآخرين .
إن استخدام العرب لقتال العرب واستخدام الأنظمة العربية لدعم اسرائيل أو التعاون معها ضد الفلسطينيين أو ضد آخرين قد أصبح سياسة علنية تفرضها أمريكا واسرائيل وتقبلها معظم الأنظمة العربية . وقد أدى هذا المسار إلى العمل على إختراع أعداء جدد مثل ايران و أخطار جديدة مثل الحوثيين في اليمن بهدف إبقاء اسرائيل بمعزل عن ذلك التصنيف و إعتبارها حليفاً لبعض الأنظمة العربية في صراعاتها المزعومة تلك ، علماً بأن تصنيف الخطر يجب أن لا يرتبط بالأخطار الموجهة تحديداً ضد هذا النظام العربي أو ذاك ، بل يجب إبقاءه محصوراً بالأخطار الموجهة الى الأوطان و الشعوب . و ضمن إطار هذا التعريف لا يوجد خطر أهم من الخطر الاسرائيلي على الأوطان و الشعوب العربية وعلى مستقبلها. أما أن تقوم الأنظمة بحصر الأخطار بتلك الموجهة اليها أولاً فهو أمر يعكس حالة الانفصام السائدة بين تلك الأنظمة وشعوبها.
وهكذا فإن أخلاق الهزيمة التي استحوذت على عقول أجيال من العرب منذ هزيمة العرب في فلسطين عامي 1948 و 1967 وباقي الهزائم الذاتية قد ابتدأت تتحول الى نهج وقناعات أخذت في التأصل ، وانتقلت التبعية من الباطن الى الظاهر ومن القبول على مضض الى القبول بتبجج ومن كونها مفروضة الى كونها مطلوبة .
ولكن وضمن هذه التطورات و المعطيات ماهو مصير العروبة و الأمة العربية؟
العروبة بمدلولها السياسي شئ و العروبة بمدلولها الثقافي الحضاري شئ آخر . وما نحن بصدده هو البحث في كيفية فك الارتباط بين الإثنين دون أن يؤدي ذلك الى مخاطر وجودية بالنسبة للأمة العربية .
وهكذا ، وعيشة بدء الإنهيار العربي الأخير عقب غزو العراق و تداعيات حقبة الربيع العربي كانت العروبة و الرابطة القومية العربية هي الضحية الأبرز حيث أدى إنهيار العديد من الدول العربية الى بروز هويات مذهبية وعرقية وطائفية على حساب الهوية الوطنية والقومية العربية . وقد أدى إضعاف الرابطة القومية العربية الى المساهمة في مزيد من الإضعاف للعالم العربي و فتحت الباب كذلك إلى تفتيت الدول العربية على قاعدة الاختلافات العرقية أوالدينية أو المذهبية حيث كان بقاء العروبة و القومية العربية عقيدة متماسكة و مقبولة من الجميع من شأنه أن يشكل سور حماية لكل مافي داخل ذلك السور من مكونات .
الأصل في الانتماء القومي هي القناعة و القبول الطوعي وليس الفرض و الإلزام كما هو عليه الحال. والهدف في هذه الحالة هو تمكين المواطنين من أعراق أخرى مثل الأكراد أو الشركس أو التركمان أو الأمازيغ .. إلخ أن يحملوا هوية عربية تسمح لهم أن يحافظوا في الوقت نفسه على قوميتهم الكردية أو الشركسية ..الخ . فالهوية العربية هي انعكاس لرابطة ثقافيه لغويه حضاريه لا تتناقض مع انتماء عرقي قومي آخر مثل القوميه الكردية أو الأمازيغية ... الخ .
الحديث عن القومية العربية ارتبط بشكل عام وعفوي بمدلولها السياسي . إن إستفحال البعد السياسي في تفسير الرابطة القومية قد خلق شعوراً إقصائيا لدى المجموعات العرقية المختلفة و إحساساً ضاغطاً بأن لغتهم و هويتهم الثقافية العربية يجب أن لا تعني بالضرورة أن قوميتهم يجب أن تكون عربية على حساب قومياتهم العرقية ومثال على ذلك المجموعات العرقية الكردية أو الشركسية أو التركمائية ... الخ . ان تحويل العروبة من قومية إقصائية ببعدها السياسي إلى هوية جامعة ببعدها الحضاري و الثقافي أصبح أمراً في غاية الأهمية للحفاظ على ترابط شعوب المنطقة وحفاظها على هويتها العربية عوضاً عن تحاربها وتطاحنها لمصلحة الآخرين و أهمهم إسرائيل .
إن الجهود المبذولة لتدمير العقيدة القومية العربية تسير بهمة ومثابرة عجيبين، في حين أن الجهود المطلوبة لإنقاذ الوضع من خلال إعادة تأهيل الفكر القومي وتحويله من عقيدة إقصائية ملزمة الى هوية جامعة خيارية تكاد تكون معدومة. ومن الواضح أن مهمة إعادة تأهيل الفكر القومي العربي تقع على كاهل المفكرين والسياسيين العرب اللذين يتوجب عليهم التعامل مع الواقع السلبي والسيء بشكل ايجابي يؤدي الى حماية الهوية العربية عوضاً عن تدميرها بشكل كامل دون تواجد أي بديل مقبول سوى التبعية القهرية للآخرين ومنهم إسرائيل .
بقلم/ د.لبيب قمحاوي