لا يُغرن أحد بهذه البلطجة الأمريكية التي يقودها رئيس الصدفة ترامب، الذي يعمل لحساب نتنياهو، بل يحاول أن يتسابق هو ونائبه بنس على من هو أكثر ولاء للفكر الصهيوني المتطرف. فوراء هذه الجعجعة وسياسة اللامبالاة عزلة دولية تكاد تكون شاملة. وإن دولة عظمى لا تجد ما تؤثر به على الدول الأخرى إلا بالعربدة والتهديد بقطع المساعدات، فلا خير يرجى منها، ولا نعتقد أنها ستؤثر في أي دولة تحترم نفسها وبها قيادات منتخبة حقيقة لا تزويرا، تعبر عن مصالح شعوبها وكرامتهم وتمسكهم بالقانون الدولي.
المشكلة أن ترامب لا يقرأ، خاصة الكتب، وهي صفة تجمعه مع معظم، إن لم يكن كل القيادات العربية الحالية. ولو كان لديه مستشار مؤتمن لنصحه بأن يقرأ كتاب جوزف ناي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد، عمّا أسماه "القوة الناعمة" في كتاب نشره عام 1990 بعد تصدع الاتحاد السوفييتي، بعنوان ما يمكن ترجمته "ملزمون بالقيادة – تغير طبيعة القوة الأمريكية" يقترح فيه على القيادات الأمريكية لفترة ما بعد الحرب الباردة، أن يقودوا العالم بالجاذبية والتأثير الإيجابي، والبحث والجامعات والتعاون وليس بالعربدة وقوة السلاح والتدخل.
التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة
ولا أفضل من مرآة الأمم المتحدة بجهازيها الرئيسيين، مجلس الأمن والجمعية العامة، لتعرف الدولة العظمى قبح وجهها عندما تنظر إليه في تلك المرآة. لقد توعدت ممثلة النظام، الجاهلة بالقانون الدولي والدبلوماسية العريقة، أن تلبس كعبا عاليا، كما قالت، لا من أجل الموضة بل لركل من ينتقد إسرائيل. وهكذا تحولت ممثلة الدولة الأعظم في عهد ترامب من دبلوماسية بارعة، كما هي العادة، إلى "شرطي بكرباج" يريد أن يؤدب هذه الدول التي تنتصر للقانون الدولي، حتى لو كان ذلك على حساب سلة المساعدات. ورغم التهديد والوعيد إلا أن نيكي هيلي وجدت نفسها يوم 18 ديسمبر وحيدة، عندما رفعت يدها مقابل 14 يدا، لتطيح بمشروع قرار كان سيطيح بقرار ترامب، باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. وبعد ثلاثة أيام وارتفاع نبرة التهديد وقفت معزولة وبطريقة مهينة مع ممثل إسرائيل في الجمعية العامة، إلا من سبع دول صغيرة من بينها ناورو وبلاو وجزر مارشال وميكرونيسيا. وقد قامت هيلي بدعوة هذه الدول، وتلك التي امتنعت عن التصويت، وتلك التي تغيبت، إلى حفل عشاء لتقول إنها ليست وحدها بل معها 63 دولة في محاولة رخيصة لإعطاء الانطباع بأن الدول التي امتنعت والتي تغيبت إنما تقف مع الولايات المتحدة.
جلسة المراجعة الشهرية حول فلسطين
أريد أن أنقل للقراء صورة أخرى عن مدى هذه العزلة الدولية التي تمر بها الولايات المتحدة وإسرائيل في الأمم المتحدة في موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من خلال نقل قبسات ولقطات من جلسة مجلس الأمن يوم الخميس الخامس والعشرين من يناير، المخصصة للقضية الفلسطينية. وهي جلسة مفتوحة موسعة بطلب من رئاسة المجلس (كازاخستان) للتداول في القضية الفلسطينية، والاستماع إلى تقرير شامل من ممثل الأمين العام في فلسطين المحتلة، السيد نيكولاي ملادينوف، وكلمات الوفود الراغبة في الحديث. لم يكن متوقعا أن يصدرعن الجلسة المفتوحة الموسعة التي استغرقت ست ساعات ونصف الساعة، قرار أو بيان رئاسي أو بيان صحافي. لذلك ألقيت فيها الكلمات بدون خوف من عقاب أو تهديد بقطع المساعدات، أو بوقف التعاون العسكري أو الاقتصادي. وأود في هذا المقال أن أنقل للقراء الكرام بعض الإقتباسات من الجلسة التي تحدث فيها 36 متحدثا، لإثبات أن العالم في واد والدولتين المارقتين في واد آخر، لأضع أمام المسؤولين والمعنيين بالأمر صورة عن تفكير المجتمع الدولي، بمدى العزلة المطبقة التي تعيشها الدولتان لعل أحدا يعرف كيف يستثمرها.
أغرب ما في الجلسة كلمتا السفير الإسرائيلي داني دانون وتلميذته المطيعة السفيرة الأمريكية نيكي هيلي. لقد تقاسما الأدوار تماما وعملا عكس ما عملاه بالضبط في الجلسة التي سبقتها. فقد اختار ممثل المستوطنين دانون أن يقصر حديثة على إيران فقط، ولم يتحدث ولو بكلمة واحدة عن فلسطين، وكأنها ليست على جدول الأعمال. وراح في كلمته يطرح أرقاما وجداول عن إيران، أطلق عليها معلومات سرية ينشرها لأول مرة. فإذا كانت سرية لماذا ينشرها الآن؟
أما نيكي هيلي فخصصت كلمتها عن محمود عباس فقط وخطابه الذي أهان فيه الرئيس الأمريكي. فبدل أن يفاوض يصعد، وبدل التمسك بأوسلو يريد أن يلغيه. هيلي تريد للفلسطينيين أن يرفعوا الراية البيضاء ويستسلموا، بعد أن أزاح رئيسها قضية القدس عن الطاولة، ويسعى لتدمير الأونروا وإعادة تعريف من هو اللاجئ من أجل تدمير حق العودة والاعتراف بالمستوطنات كجزء من إسرائيل، ثم يأتي عباس ليفاوض. قالت: "أسأل هنا اليوم، أين الرئيس الفلسطيني؟ أين الملك حسين الفلسطيني؟ أين أنور السادات الفلسطيني؟ إذا برهن الرئيس عباس على أنه يمكن يكون ذلك النوع من الزعماء، فسنرحب بذلك. إن أعماله الأخيرة تبرهن على العكس من ذلك تماما. ولا تزال الولايات المتحدة ملتزمة التزاما عميقا بمساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي، يحقق مستقبلا أفضل لكلا الشعبين، تماما كما فعلنا بنجاح مع المصريين والأردنيين. ولكننا لن نركض وراء قيادة فلسطينية تفتقر إلى ما يلزم لتحقيق السلام. فللحصول على نتائج تاريخية، نحتاج إلى قادة شجعان. ونضرع إلى الله أن يسخر لنا ذلك مرة أخرى، من أجل الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي".
لقد تعاقب على الحديث أكثر من 30 دولة تكررت في كلماتهم موضوعات ثلاثة: التمسك بحل الدولتين وبالتالي رفض الاستيطان جملة وتفصيلا، ورفض اتخاذ قرار أحادي بشأن القدس، وضرورة دعم الأونروا للاستمرار في تقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين. مندوب هولندا القريبة من الحكومة الإسرائيلية قال: "تعارض مملكة هولندا بشدة الإعلانات الإسرائيلية الأخيرة بشأن توسيع المستوطنات. فالمستوطنات غير قانونية في نظر القانون الدولي، وهي تشكل عقبة في طريق السلام. وعلاوة على ذلك، فإننا نشعر بالقلق، لأن التعديل الذي أجراه الكنيست في "القانون الأساسي: القدس عاصمة إسرائيل"، في 2 يناير، سيزيد من صعوبة التوصل إلى اتفاق بشأن كون القدس عاصمة مشتركة للدولتين. وأودّ أيضاً أن أشدد على أهمية العمل الذي تقوم به وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وينبغي لنا عدم تسييس المعونة الإنسانية.
ومثال آخر من بوليفيا: "يرفض وفد بلدي رفضاً قاطعاً النية السافرة لحكومة إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، لبناء مستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. قبل أكثر من أسبوع مضى، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي للصحافة خطة بناء 1285 وحدة استيطان جديدة في الضفة الغربية. هذا الإعلان يعني انتهاكاً مباشراً للقرار 2334 (2016)، فضلاً عن العديد من القرارات الأخرى التي اتخذها كل من مجلس الأمن والجمعية العامة، التي تعيد التأكيد على أن إنشاء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي أساس قانوني، ويشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ويمثّل عقبة رئيسية أمام تحقيق حل الدولتين والسلام الشامل والعادل والدائم". وعن الأونروا قال: "نود أن نُعرب عن قلقنا إزاء قرار حكومة الولايات المتحدة بخفض التمويل المقدّم إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). نحن نعتقد أن هذا القرار يؤثر بدرجة كبيرة على الدعم الإنساني الذي توفره الوكالة إلى ما يقرب من 5 ملايين فلسطيني، من الرجال والنساء المسجلين حالياً لدى الأونروا".
وهناك أسباب ثلاثة لهذه العزلة الحقيقية:
- الانتهاك الفاضح والعلني للقانون الدولي؛
- العليائية والرعونة والاستخفاف؛
- لعب دور الضحية فيما هو بيّن على الملأ بأن الذي يمارس القمع والاحتلال والقتل والهدم والتجريف والاقتحامات والاعتقالات هو "إسرائيل"، وما كان لها أن تفلت من عقاب لولا الدعم الأمريكي اللامحدود.
إن نحو 94% من سكان العالم يؤيدون الحق اللفلسطيني في قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وهذه نسبة ربما أعلى من مستوى تأييد العالم للحركة المناهضة للأبرتايد في جنوب أفريقيا. وما وجد هذا الزخم في تأييد قضية ما إلا وانتصرت، إذا توفرت لديها قيادة للنضال على قدر من الوعي والمسوؤلية والحنكة والودة والمثابرة والصمود- الشيء المؤسف أن كثيرا من هذه الصفات غير متوفر في قيادات الشعب الفلسطيني ولا الشعوب العربية.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي