لا أُريد هنا أن أسترسل تفصيلياً بما حدث بين تيّارات فتح وكيف تم إقصاء أو إستئصال بعض الطّاقات والقيادات فيها على مدار تاريخها، ولكن أود أن أُشير لبعض المحطّات الهامة في تاريخها، والتي تتلخّص في أُطروحة أبو الزعيم في تجييش الحركة وما تلاها من النّقاط العشر والحل المرحلي وظواهر الفَساد السّلوكي والسياسي والأمني التي دبّت في أوساط فتح الثورية إلى الإجتياح الإسرائيلي إلى جنوب لبنان وتقاعُس بعض القيادات في مواجهة العُدوان والإنسحاب بدون مواجهة إلى أُطروحات ما يُسمى القرار الوطني المستقلّ.
من يُدرك تاريخ فتح لا يصعُب عليه فك شيفرة الصّراع المحتدم منذُ سنوات بين عضو اللجنة المركزية محمد دحلان ومحمود عباس رئيس السلطة وفتح معا، ففتح ومُنذ انطلاقتِها وبوجود رجالها الأَقوياء والتّاريخيون لم تخلو من الصّراعات والتوازُنات بين تياراتها الفكرية التي كان النظام والتوجّه والمُنطلقات هي نقطة الجمع بينهم لا الطّرح، بل توزيع الأَدوار إقليمياً هو من ساعد نسبياً لحفظ ديمومة أُطُرها.
تلك محطاتٌ واضحة في مسيرة فتح وقفزاً عن محطّات منذُ السنوات الأُولى من تأسيسها وخروج بعض مؤسّسيها واللّجوء إلى تشكيل فصائل جديدة أو الإعتزال.
إذا لم تكن حالة الإقصاء وأشد منها فتكاً هي وليدة سُلوك مرحلة فقط من مراحلها ولكن مع كل جديد مرحلي أو برنامج جديد كان هُناك الاصلاحيين والديمُوقراطيين واليسَار وكان بالمُقابل حُكم الفرد وتأليهِه لاحتكامِه على السّلطة والثروة والإمتداد الإقليمي الذي يتناغَم مع برنامجه السّياسي. وكما قال أَخينا عبّاس زكي أنّ المُوالاه لمن يمتلك القرار ومعها قرار المخلاة.
في كلّ المراحل كانت سياسةُ الفرد هي الدّافع لتحديد خيارات مع من يتناقضوا معه أو مع سياسته أو مع برنامجِه أو مع سُلطاته، ولكن وكما ذكرت أنّ توازُنات خُلقت في أُطر فتح من رجالٍ أَقوياء إلى أن عمِل العدو الإسرائيلي للتدخّل في أحداث خلل فيها عن طريق الإغتيالات التي أصابت أكثر من 7 من لجنتها المركزيّة والعَديد من كوادِرها المتقدّمة.
من هُنا وفي إختِلال توازُن المُعادلة، بدأت تدريجياً وزمنياً أن يفرض لون واحد ونهج واحد ورؤية الفرد على برنامج فتح ودُخولنا بعملية برنامج السّلام مع إسرائيل بما يتنافَى مع الأهداف والمبادِيء والميثاق الوطني.
وإن إختلف الأشخاص والرّؤى فالمشهدُ واحد لتغوّل في سياسة الفرد وفرض هيمنته على أُطر فتح وقرارِها وإقصاء لكل من يُخالف وإسقاطات للبعض ماليّة وسُلوكية لكي يبقى ذليلاً تحت هيمنة الفرد وقرارِه، لم يكُن هُناك يوماً حكم لمؤسّسة أو إقصاء أو قانون، فالقانون في يد الفرد يصيغُه وقتما يشاء ويمحو جملهُ وقتما يشاء.
في السُّلم التاريخي لمراحل فتح تأتي ظاهرة محمد دحلان كأحد مُركّبات الصّراع التاريخي داخل فتح بين الحقّ والباطل وبين الإصلاحيين والفساد وأدواتهم، وفي مرحلةٍ هامة شُتّتت فيها فتح وتبعثرت كلّ المُعادلات الوطنية، ففتح بالنّسبة للرئيس عباس هي فتحُهُ، وهذا ما ردده في أحد كلماته أمام الجميع و"من لا يعجبه عليه أن يخرج"..!، وكان المقصود دحلان ومناصِريه في المجلس الثّوري.
ظاهرة دحلان هي إمتداد طبيعي لنضال الإصلاحيين في فتح، ولكن دحلان من الذّكاء الذي لا يوقِعُه في مثل أخطاء الآخرين التي حدّدت ممراتهم لكي يشنقوا، فدحلان مُتمترس في قلاع فتح لأنه يحمل رُؤية الحق وحُكم المؤسسة والقرار الجماعي ضد الهيمنة التي يُمارسها السيد عباس، ففي أكثر من حديث له هو يرفض فكرة الإنشقاق جملةً وتفصيلاً، ومن هو الذي يستطيع الحفاظ على إرث فتح النضالي إذا خرج الإصلاحيين كما حدث مع الاخرين؟
طلقات السّيد الرئيس ضد دحَلان هي طلقات فاشنك فارغة لن تؤثّر على تطوّر القاعدة وازديادها المطالِبة بالإصلاح وإنهاء حُقبة حُكم الفرد، فزمن الإستفراد قد ولّى ومحمد دحلان ليس بحاجة للإنشقاق وهو قادر عليه، ولكن كما قلت أن إيمان محمد دحلان بأن الإصلاح يجب أن يكون من عمق فتح وتاريخها والمحافظه عليه هو من أهم أولويّاته، وستؤكّد الأيّام القادِمة بأن ظاهرة دحلان لا يُمكن القفز عليها عندما تتحوّل من ظاهرة تنظيميّة إلى ظاهرة شعبيّة تُنادي بالإصلاح وإنهاء تغوُّل سياسة الفرد على الواقِع الحركي والوطَني.
سميح خلف