في مؤتمر صحافي عقد في الأول من فبراير/شباط الجاري، اتسم باحتفالية مرتبكة، أعلنت قيادة "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" عن تبديل موقفها الحازم والمعروف منذ شهور في قضية التناوب بين مرشحي القائمة المشتركة، وذلك عندما صرح النائب يوسف العطاونة عن استعداده للاستقالة، مزيلًا الحاجز ما قبل الأخير من طريق دخول المرشحة التاسع عشرة في القائمة وممثلة حزب التجمع نيفين أبو رحمون إلى الكنيست، في مسعى جبهوي لطي هذه الأزمة التي بدأت مع الاستقالة التراجيدية الصاخبة لزميل أبو رحمون في الحزب النائب باسل غطاس، وتداعت فصولها بعد ذلك على مراحل أزماتية أشغلت عقول السياسيين وحناجرهم، و"كششت" كثيرًا من المؤيدين، وبغضت إليهم تصرفات قادة المركبات الأربعة في القائمة المشتركة.
ستترك تفاصيل هذه الأزمة رواسب مؤثرة داخل الجيوب الحزبية الضيقة، وبين قطاعات جماهيرية واسعة، وما قيل في المؤتمر الصحافي أضاف لبسًا على ما تراكم، وربما نفّر أعدادًا جديدة من الناخبين لاسيما بين داعمي الجبهة الديمقراطية.
فكيف يتوقع العطاونة وقيادة الجبهة أن تُقبل مبرراتهم للاستقالة؟، وهم يؤكدون أنه "لا يوجد استحقاق لأحد لدى الجبهة.. ولكن من منطلق المسؤولية الوطنية والأخلاقية وحرصًا على وحدة القائمة المشتركة، التي يحاول البعض العبث بها وتفكيكها في ظل حكومة يمينية شرسة.. فإنه شخصيا والجبهة يتنازلون عن حق كامل وشرعي لهم، من أجل التصدي للسياسة الفاشية وإنقاذ القائمة المشتركة وصيانة وحدتها" .
هل حقًا سيقبل المنطق السوي هذه الحجج ويحتسبها كأسباب شرعية، طارئة وجديدة، تبرر الاستقالة في هذا الوقت؟
إنقاذ القائمة المشتركة وصيانة وحدتها من أجل التصدي للسياسة الفاشية، كانت أهدافًا صحيحة وموجودة قبل أشهر مثلما هي اليوم، فلماذا لم تعمل الجبهة بهديها مباشرة بعد استقالة النائب عن الحركة العربية للتغيير المحامي أسامة السعدي، الذي استقال فعليًا يوم 18/9/2017؟ في الواقع لم يستجد، تحت شمس إسرائيل الحارقة، أي عنصر مفاجئ، فإما أن تكون وراء هذا القرار دوافع غير موزونة وفئوية تخص ما يجري في معسكرات الحزب الشيوعي والجبهة وتجاذباتهما الداخلية، أو أن ضغوطًا خارجية خفية فعّلت على بعض قادة الجبهة ودفعتهم إلى تبديل مواقفهم، وإذا ما صح هذان الافتراضان فعلى من اتخذ قرارًا خاطئًا في حينه، ودافع عنه بمبدئية مشهرة وماطل طيلة خمسة شهور، أن يتحمل المسؤولية أمام كوادر الجبهة ومؤيديها وأمام ناخبي القائمة المشتركة ويستنتج على ضوء ذلك النتائج.
في جميع الأحوال، أبرزت أزمة التناوب عمق الاختلافات بين مركبات القائمة، وعكست هشاشتها بشكل يستدعي اجراء عملية تقييم شاملة للتجربة، فحتى لو قبلنا توصيف القائد الجبهوي المهندس رامز جرايسي بأن "القائمة المشتركة هي ليست قائمة اندماجية، بل هي قائمة تجمع مركبات قد تواجه خلافات واختلافات في طريق العمل المشترك" لا يمكن، بعد مرور هذه السنوات على تأسيسها، الوقوف عند هذا التأكيد من دون أن نقوم بفحص مجموعة من القضايا الملحة، ونجيب على عدد من الأسئلة الإشكالية التي رافقت عملها طيلة هذه السنوات.
فهل ما زالت الفرضية المؤسسة حول وجود حاجة سياسية الزامية تستوجب تبني واتباع هذا "الموديل"، كأفضل الخيارات في الظروف المأساوية الراهنة، صحيحة؟ وهل إنقاذ وحدتها "التقنية/ الروبوتية"، وهي منزوعة من جميع عناصر الكيمياء السياسية المتجانسة في طبيعتها وطبائعها، أمر محتوم مهما كلف من ثمن؟ أو هل هذه الوحدة كما مورست فعليًا تشكل مصلحة جماهيرية عليا وواقية وآلية عمل مثلى وكافيه لدرء المخاطر المميتة؟ وكي لا يفهم قصدي بشكل مغلوط أوضح أن وحدة الجماهير العربية هي ضرورة وشرط أساسي في معادلة البقاء في وطننا، وبالتالي من المهم خلق مناخات عمل وحدوية وتحالفات حزبية وحركية عربية تعزز فرص التصدي الناجع للسياسات الفاشية الاقتلاعية المعلنة ضد المواطنين العرب في إسرائيل وضد مؤسساتهم القيادية السياسية والمدنية المختلفة، لكنني أرى أن هنالك خلطًا بين مفهوم هذه الوحدة الحامية وتحالف فوقي جمع، في البداية، قادة أربعة هياكل أحزاب وحركات سياسية، واتفقوا على حتمية خوض انتخابات الكنيست، من خلال قائمة مشتركة، وُصفت تفاهمات بُناتها خطأً على أنها "وحدة"، في حين كانت هي أقرب إلى "العصبة" المجردة من أي توافقات على برامج سياسية جامعة، أو وسائل نضالية واضحة أو روابط تنظيمية واقية. فبعد أن وضعت الحكومة اليمينية العنصرية حاجزًا تعجيزيًا في وجه الأحزاب العربية، وقررت رفع نسبة الحسم بصورة قاتلة، اصطلح القادة والوجهاء، في أجواء من الحماس القبلي العربي، على تخطي تلك العقبة الكأداء، عن طريق إقامة إطار مشترك، لكنهم لم يتفقوا على كيف سيعمل وتحت أي رايات سياسية وأين وبماذا، علاوة على أنهم لم يجتهدوا، ولا بالحد الأدنى، من أجل تذليل ما فرّق ويفرق بينهم في مسائل جوهرية ومبدئية، فولّدوا "مخلوقًا"، على جناح عاصفة من غبار، وتركوه يحيا خداجًا وتهدده أصغر العثرات، كما شهدنا مؤخرًا في قضية الكراسي، التي عرّت غرائز "أكياس مرارات" دواحسنا وغبراواتنا التليدة الخالدة.
تلك لم تكن وحدة صاهرة، والإطار كما بني لم يخلق حالة نضالية ذات أبعاد ثلاثية مؤثرة، فباستثناء لجوء مؤسسيه إلى تتويج قرارهم بشعار "سوبرماركيتي" فضفاض لم يملأ قادة الأحزاب إطارهم/ إناءهم بغير الزبد والهواء، فالتصدي لسياسة الحكومة العنصرية يبقى شعارًا لن يختلف عليه اثنان، لكنه لا يكفي. لم يمحُ المؤتمر الصحافي آثار المناوشات والمناكفات، على الرغم من فيض الروح الإيجابية التي انثالت من ألسن المشاركين، فجميعهم دافعوا عن ضرورة حماية "الوحدة" ووجود القائمة المشتركة، حتى أن رئيس لجنة الوفاق، الكاتب والأديب محمد علي طه، صرح بأنه يرى "بيوم الأرض وتأسيس القائمة المشتركة أهم حدثين سياسيين في تاريخ الجماهير العربية في البلاد"، وهو حين عبّر باخلاص عن قناعاته وإيمانه كان يعرف في المقابل أن الكثيرين يخالفونه الرأي والاستنتاج، فهذه التجربة، على أهميتها، ما زالت تراوح في "حفاظاتها" ونجاحاتها محدودة وهي قيد المساءلة والدراسة.
أخشى أن يكون ما سمعناه في المؤتمر مجرد أمنيات واهمة، فبتزامن مع ما صرح به سكرتير الجبهة منصور دهامشة وتأكيده هناك على "أنه رغم التجاذبات الأخيرة بين الأحزاب (مركبات القائمة) إلا أن حسن النوايا جاء ليضع الأسس الصحيحة لضمان استمرارية القائمة المشتركة، بل وزيادة قوتها وتمددها". قرأنا ما كتبه مراد حداد، العضو البارز والمؤثر في حزب التجمع، في رسالة بعثها لمنصور دهامشة ينصحه فيها، كما نشر، بزيارة مدينة شفاعمرو ليسأل "أهلها وناسها وليسأل جبهته عن مراد حداد الذي حطم أحلامهم وقطع عليهم الطريق، بعدما كانوا مستعدين أن يتعاونوا مع الليكود لإفشال مرشح وطني".
لقد غصصنا ونحن نقرأ هذه الرسالة في هذا الوقت بالذات، وتعجبنا كيف بعد هذه الملاسنات بين الحلفاء والعداوات المتأصلة، عند جميعهم، يريدوننا أن نؤمن بأن وحدتهم تفتدى وأن القائمة المشتركة، كما هي عليه، جديرة بأصواتنا؟ لقد أكدنا في الماضي على أن إقامة القائمة المشتركة هي غاية سامية ومهمة،إلا أنها لن تصير وسيلة كفاحية مجدية إلا إذا صمّغت بمبادئ سياسية واضحة وجامعة، وتبنى فرقاؤها برامج نضالية مبنية على توافق حول أهداف النضال المرجوة وميادينه، وإلى جانبها تعريفات موحدة لمعسكرات الأعداء والأصدقاء والحلفاء، ولأولويات المخاطر التي يواجهها مجتمعنا. فبدون الاتفاق على طبيعة علاقاتنا مع مؤسسات الدولة، وترقيم حدود مسؤولياتها مقابل مسؤولياتنا الذاتية، وبدون الاتفاق حول متى وكيف يجب التحالف مع القوى اليهودية التي تعارض السياسة اليمينية الفاشية المتنامية، وبدون التوافق على مصادر توليد العنف بيننا، وكيفية مجابهتها من غير تأتأة وتردد، وبدون تحديد دور الدين السياسي في مفاصل حياتنا، سيبقى نشاط القائمة محدودًا وهي معرضة لكل عويصفة عابرة، أو نزوة قائد جامحة، أو مصلحة حزب ضيقة قد تكون بحجم المخصص الشهري المدفوع عن كل نائب من ميزانية الكنيست.
لا جدوى من استمرار عمل القائمة بالنمط المتبع نفسه، ومن الأجدى والأجدر فك الارتباط والشروع، بتفكير موحد، بالبحث عن إقامة تحالفات عربية – عربية وعربية – يهودية ستكون أقوى وأنجع. من الجائز التوافق على إقامة قائمتين متكاملتين ومتفقتين على ضرورة العمل البرلماني المشترك، مع فرص لبناء جبهات عريضة في قضايا عينية وتحت رايات سياسية محددة وواضحة وفي مواجهة اليمين ومخططاته القاتلة أولًا، وفي مواجهة أعداء مجتمعنا الداخليين ثانيًا، فالقائمة المشتركة كما هي عليه اليوم ليست بقرة الجماهير المقدسة.
جواد بولس
كاتب فلسطيني