منذ أكثر من أحد عشرة عام ومدينة غزة التى تبلغ مساحتها ثلاثمائة وخمسون كيلو متر مربع؛ وبلغ عدد سكانها قرابة مليونى فرد ونيف وترزخ تحت الحصار وتعانى كل أشكال المعاناة والحرمان ، وذلك على مرأى ومسمع العالم الذى يدون الجريمة دون صوت. فما يحدث لقرابة اثنى مليون انسان فى قطاع غزة هو جريمة أخلاقية بغض النظر عن من تسبب فيها، لكن صمت العالم عن الأوضاع فى قطاع غزة هو جريمة أكبر تتورط فيها الانسانية جمعاء .
وما يحدث لسكان القطاع هو إهانة صارخة للانسانية تتعدى حدود مفاهيم ومقاييس الضغوط السياسية، فلم يعد حصار غزة اليوم عمل سياسى ضمن الاستراتيجية السياسية العسكرية لإسرائيل؛ فى إطار الصراع الفلسطينى الاسرائيلى؛ بعد أن تحول هذا الحصار إلى جريمة القرن؛ وذلك عبر أطول حصار شهده التاريخ الانسانى مع دخوله عامه الثانى عشر، وهو ما أدى إلى حالة من الانهيار لكل مقومات الحياة الانسانية فى قطاع غزة؛ وهو ما ينقل المشهد فى القطاع من خانة السياسى إلى خانة الأخلاقى الانسانى؛ وهو ما يدفع إسرائيل التى باتت تدرك تلك الحقيقة من إخلاء مسؤوليتها عما يحدث للقطاع؛ عبر تحميل أطراف أخرى مسؤولية ما آلت له الأوضاع فى اختزال وقح للتاريخ؛ وإدعائها أنها تمد غزة بما تحتاجه عبر نشرات يومية يصدرها منسق الشؤون المدنية، ويحصى من خلالها كم كيس دقيق وكم علبة حليب أطفال أُدخلت إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم .
وحقيقة الأمر أن إسرائيل بتلك السياسة تحاول تبرئة نفسها من الجريمة؛ لصالح إلصاقها فى طرفى الإنقسام الفلسطينى؛ وهى سياسة تجد أذاناً صاغية فى أروقة السياسة الدولية بسبب الانقسام الفلسطينى المزمن؛ والذى أعطى لإسرائيل صك البراءة من كل جرائمها السارية المفعول فى قطاع غزة؛ بحيث تحولت تلك الجرائم باعتبارها ردود فعل سياسية وعسكرية مبررة لا علاقة لها بالجريمة الأخلاقية فى حق الانسانية، والتى ترتكب بحق قطاع غزة؛ على اعتبار أن من يحكم غزة هو منظمة مصنفة على أنها إرهابية . وبهذا المنظور الاسرائيلى ينتقل قطاع غزة من تصنيفه منطقة محتلة إلى منطقة إرهابية أشبه ما تكون بأي منطقة تديرها جماعة إرهابية، وتتحول فيه جرائم الحرب الإسرائيلية إلى أنشطة لمكافحة الإرهاب، ويتحول اثنى مليون فلسطينى من ضحايا احتلال عنصرى إلى ضحايا إرهاب؛ وهو ما حدث وسيحدث طالما بقى الحال على ما هو عليه فى قطاع غزة، واستمر الانقسام الفلسطينى المقيت .
إن الاستراتيجية الإسرائيلية فى التعامل مع قطاع غزة مبنية بالأساس على فصله عن الضفة الغربية، وهو ما توفر لها بعد الانقسام الفلسطيني منذ عام 2007، وهو ما أعطى قبلة الحياة لإحياء مشاريع صهيونية أصيلة فى تصفية القضية الفلسطينية؛ وذلك عبر تقسيم الشعب الفلسطيني فى فلسطين التاريخية ديمغراقيا وسياسيا أيضا، على قاعدة أقل مساحة جغرافية بأكبر كثافة ديمغرافية، ولما كانت غزة عصية على التقسيم نظراً لصغر مساحتها مقارنة بديمغرافيتها، فكان الحظ الأوفر للتقسيم سيكون من نصيب الضفة الغربية، وهو ما يعنى ببساطة أن الثقل السياسى لأى كيان فلسطينى مقترح ضمن تسوية قادمة سيكون فى المكان الأكثر كثافة وهو قطاع غزة .
وتدرك إسرائيل جيدا أن هذا النمط من التسوية لا يمكن أن يمر إلا فى الوضع القائم حاليا؛ من خلال الانقسام الفلسطينى، وهى هنا تراهن على عقلية طرفى الانقسام؛ والتى يستحيل من خلالها يجاد أى صيغة توافقية تنهى الانقسام إلى الأبد عبر الاحتكام للشعب والتنازل عن المشاريع الفردية والأيديولوجية لصالح المشروع الوطنى الفلسطينى، ومن الواضح أن تلك الاستراتيجية الإسرائيلية مبنية بدقة على دراسات معمقة للحالة الفلسطينية، والتى تستعصى على الحل أو التوافق رغم كل جولات واتفاقات المصالحة، وهو ما دفع إسرائيل والولايات المتحدة للشروع فيما يعرف بصفقة القرن بعد جريمة القرن الماثلة فى قطاع غزة، وذلك عبر إزالة ملف القدس وإصدار قرار ترامبى بأنها عاصمة إسرائيل، وقبلها إسقاط حق العودة من على طاولة التفاوض، وما نشهده الآن من مساعي حثيثة أمريكية إسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى بما يخدم مصلحة إسرائيل الأمنية والسياسية.
وأمام هذا المشهد السياسى فعلى طرفى الانقسام أن يدركوا حجم الجريمة التى يرتكبونها فى حق أنفسهم قبل أن تكون فى حق شعبهم باستمرار الانقسام الفلسطيني؛ وليدركوا أن الشعب الفلسطينى شعب حى سينهض من حيث أرديتموه؛ فإما أن تعبروا معه إلى قدره الذى سيصنعه وإما ان تبقوا حيث أرديتموه بخلافكم وانقسامكم .
د.عبير عبد الرحمن ثابت
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية