يشي الانتصار الأخير الذي حققته إرادة الشعب الفلسطيني المكافح ضد الاحتلال الصهيوني في معركة مواجهة قرارات المحتل الأخيرة ضد الكنائس في القدس المحتلة عن حرب مفتوحة على كل الأصعدة، ليس للفلسطينيين أن يعدموا فيها الحيلة والوسيلة للتصدي لصلف الاحتلال وتجاوزاته مهما كان شكل ونوع الوسيلة.
فتراجع سلطات الاحتلال بالأمس القريب عن قرارها فرض ضريبة الأملاك "الأرنونة" على الكنائس المقدسية، والتي تصل قيمتها لملايين الدولارات سنوياً، والذي يهدف بشكل واضح إلى مصادرة أراضي الكنائس في القدس حين يتعذر الدفع، لا يمكن قراءته إلا من زاوية تجسيد مشهد صمود آخر بسواعد أبناء الشعب الفلسطيني الذي لا يتوانى عن الدفاع عن مقدساته الإسلامية والمسيحية بروح وإرادة نضالية موحدة لا تعرف الكلل.
فقد جاءت خطوة إغلاق كنيسة القيامة الأقدم والأقدس لدى كافة الطوائف المسيحية، تعبيراً عن رفض الإجراء الإسرائيلي كحدث نضالي هام يضع أطرافاً عدة أمام مسؤولياتها الأخلاقية، ويكون مؤداها في نهاية الأمر إحراج المجتمع الدولي، لا سيما دول أوروبية وحاضرة الفاتيكان على وجه الخصوص التي وجدت نفسها في موقف اضطرت معه لإبداء فعل ما للضغط على الاحتلال لدرء الحرج عنها باعتبارها راعية للمقدسات والأقليات المسيحية في العالم.
ويلاحق الاحتلال هاجس الهيمنة والسيطرة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديداً في مدينة القدس، إضافة لإجراءاته على مدى عشرات السنين الهادفة لطمس المعالم الدينية ومحو ما أمكن منها، يصاحب ذلك تزييفاً للتاريخ الذي يسعى من خلاله الاحتلال إضفاء شرعيته على المكان.
ولمحاولات المساس بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس تاريخ طويل من الانتهاكات الصارخة بحق الأديان والتراث وحقوق الغير مارسها الاحتلال، ولم يكن لأبناء الشعب الفلسطيني الواحد الموحد بكل أطيافه السياسية، وطوائفه الدينية، سوى التصدي لسياسات الاحتلال، وكشف وجهه القبيح أمام العالم.
فبعد سيطرة قوات الاحتلال على مقدسات مسيحية في مدينة القدس عام 1948، ثم إطباق هيمنته على ما تبقى منها في احتلاله للأرض الفلسطينية عام 1967، بدأت منذ بدايات الاحتلال للأرض الفلسطينية الاعتداءات بحق الكنائس، حيث عمدت أعمال التخريب للمس بقدسيتها، وشملت هذه الممارسات بالإضافة لكنائس القدس، الكنائس والمواقع المسيحية المقدسة في القرى والبلدات الفلسطينية المختلفة.
وتكشف حقائق من التاريخ تعرّض جنود الاحتلال للكنائس بشكل وحشي، يعبر عن دناءة واستخفاف بالأديان والثقافات والحضارات المختلفة، حيث تروي الوقائع التاريخية نهب جنود الاحتلال للعديد من الكنائس بعد احتلال الأرض، وتعمّد تحويل عدد منها لدورات مياه يقضون بها حاجتهم، كما تعرضوا لقدسية الكنائس من خلال تمزيق كتب مقدسة.
وتستمر هذه الممارسات حتى يومنا الحاضر من خلال اعتداءات المستوطنين وأعضاء المنظمات اليهودية المتطرفة على الكنائس بالتخريب والحرق وتهديد المصلين فيها.
ولا يمكن فصل التجاوزات الإسرائيلية الأخيرة تجاه الكنائس المسيحية في القدس عن سياقات المستجد السياسي في المرحلة الحالية، خاصةً وأن الاحتلال يعتبر نفسه قد أخذ جرعة "تنشيطية" عقب قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 6-12-2017 بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، واعتزامه نقل سفارة بلاده إليها، لإطلاق يده في الأرض والمقدسات يفعل بها ما يشاء، ويكمل مخططه الاستيطاني، والإجهاز على ما تبقى من الأرض الفلسطينية.
وأمام هذه المعطيات فإن المرحلة باتت تتطلب – عقب الضوء الأمريكي الأخضر للاحتلال – يقظة عالية من أبناء الشعب الفلسطيني وكافة أحرار العالم، كي يكونوا على أهبة الاستعداد لأية إجراءات أو انتهاكات إسرائيلية جديدة متوقعة تستهدف الأرض والمقدسات (إسلامية ومسيحية)، بغرض التصدي لها ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليات الأخلاقية والقانونية في هذا المجال، بهدف التدخل من أجل الضغط على الاحتلال لوقف جرائمه ضد الأرض والإنسان والمقدسات والممتلكات في الأراضي الفلسطينية.
وبالطبع لا ترضي خطوة الاحتلال الأخيرة تجميد قرارها فرض الضرائب على الكنائس وممتلكاتها في القدس طموح الفلسطينيين، فالمقدسات الإسلامية والمسيحية لا تزال في خطر، سيما وأن الاحتلال أعلن عن تجميد وليس إلغاء لقراره فرض الضرائب على الكنائس، ما يعني بأن خطوته كانت إذعاناً للضغوط الدولية، ولحركة الصمود الوطني الفلسطيني بعد إغلاق أبواب كنيسة القيامة للتعبير عن الاحتجاج على قرارات سلطات الاحتلال.
وتتطلب المرحلة اليوم بذل جهود أكبر في حشد الطاقات، وتوظيف كافة المنظمات الحقوقية أدواتها لعرض قضية الانتهاكات الإسرائيلية بحق المقدسات، وطرحها في المحاكم الدولية لإبقائها حية، كي يتسنى من خلال ذلك مواجهة الاحتلال بالوسائل القانونية المتاحة.
كما أن هنالك حاجة لإبقاء المجتمع الدولي في حالة استنفار دائم من أجل الضغط المستمر على الاحتلال بهدف وقف اعتداءاته على المقدسات الدينية، وإفشال مخططاته المبيتة للانقضاض على الممتلكات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، والتأكيد على حق الفلسطينيين في التعبد وإقامة الشعائر في مقدساتهم الدينية.
يوازي ذلك استمرار كافة أشكال النضال المشروع لحث كافة الأطراف الدولية الموقعة على اتفاقيات جنيف، لضمان إلزام دولة الاحتلال لتطبيق بنود الاتفاقيات على الأرض الفلسطينية المحتلة، والحفاظ على الوضع القانوني والتاريخي للأماكن المقدسة، وعدم المساس بها بأي شكل من الأشكال باعتباره مخالفاً لكل الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص.
لا ننسى في ظل هذا التحدي الجديد، ونجاح الضغط الشعبي في وقف البوابات الالكترونية، ضرورة استمرار الضغط والعمل لوقف القرار الأمريكي بنقل العاصمة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لدولة الاحتلال.
بقلم/ د. عصام يوسف