قد يكون آذار أجمل الشهور في فلسطين، ففيه تستعيد الأرض جدائلها وعلى صدرها ينهد اللوز ويسبح في عيونها القمر.
يحلّ في ربوعها كالوعد الذي لا يُزهر إلا في أحضان سيّدات الحلم وعلى زنود صاحبات الرفعة والحسرة؛ فيه تُشهر فلسطين أنوثتها: جبال حبلى بالنرجس والأمل، ونساء يحملن في أياديهن الماء والبيارق ومن خواصرهن تندفع الحياة والوجع.
من يتابع الأخبار سيقرأ كيف تحتفل فلسطين هذا الأسبوع بنسائها وسينتشي بما يقرأ، إلى أن يتمرد "الشارب العربي" مرّة أخرى ويمارس طقوس سيّاف الشرف، ويذكرنا من أين أتينا وكيف لا تستطيع الصحارى إلا أن تثأر لظلالها وتنتقم لمن يخرج عن طاعة النسب والعباءة والحسب.
وقبل أن نستعرض أخبار فلسطين لا أولى من تذكّر رياحينها الأسيرات، ومناضلاتها اللائي تصدّرن، مثل الرجال، ساحات المقاومة والكفاح. ففي سجون الاحتلال تقبع (62) أسيرة، بينهنّ (6) فتيات قاصرات، و(9) أسيرات جريحات و(17) من الأمهات، و(3) أسيرات إداريات بينهن النائبة في المجلس التشريعي خالدة جرار. وحسب معطيات، "نادي الأسير الفلسطيني" فقد اعتقل الاحتلال 16 ألف امرأة فلسطينية منذ عام 1967.
فلسطين في هذه الأيام تنحني لنسائها، فالمجلس الوطني الفلسطيني، وعلى لسان رئيسه سليم الزعنون هنأ المرأة الفلسطينية والمرأة بشكل عام في يومها العالمي وأكد: "إنّ المرأة الفلسطينية شريكة الرجل الفلسطيني الوفية الصابرة والمناضلة، التي وهبت حياتها ليس فقط لأسرتها، وإنما لبناء مجتمعها والإسهام في رفعته".
أما عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية د. حنان عشراوي فقد وجهت تحية إكبار وإجلال للمرأة الفلسطينية، مشيدة بالدور الطليعي والمميز الذي تلعبه نساء فلسطين في النضال الوطني، ومشددة على أنّ "تحصين المجتمع لا يتمّ إلا بتحصين المرأة، وإن السلم والأمن المجتمعي لا يكون إلا بوجود امرأة متسلحة بكامل حقوقها".
وفي مسعى لتدعيم مكانة المرأة الفلسطينية وحماية حقوقها قرأنا عن إعلان رئيس الوزراء د. رامي الحمدالله لرزمة من الإجراءات لتطوير بعض القوانين والانظمة، بهدف حسر الاجحاف عن النساء والاعتراف بحقوقهن المتساوية مع الرجال. فقد أعلن رئيس الوزراء أنه سيكون باستطاعة المرأة الفلسطينية أن تتقدّم بطلب جواز سفر لأطفالها وفتح حساب بنكي لهم ونقلهم من مدارسهم. كذلك قرر مجلس الوزراء في جلسته يوم الخامس من مارس/ آذار الجاري التنسيب للرئيس محمود عباس لأصدار تعديل لقانون العقوبات رقم (16) لعام 1960، بإضافة فقرة خامسة للمادة 99 تنص على أنه يستثنى من أحكام هذه المادة جرائم قتل النساء على ما يسمى خلفية شرف العائلة أو دواعي الشرف، وكذلك الغاء المادة 308 من القانون التي كانت تسامح المغتصب اذا تزوج ضحيته.
فلسطين الرسمية تحاول أن تدفع عن النساء لعنة إرث السنوات الخوالي، وتمحو بعض ما كرّسته العادات والتقاليد في مجتمعاتنا البطركية والتقليدية. ونحن اذ نأمل أن يوافق الرئيس على إلغاء تلك الاستثناءات الجائرة في قانون العقوبات، نتوقع أن تبدأ النيابات والمحاكم بمعاقبة قتلة النساء باسم الشرف والعائلة كسائر القتلة وبمحاسبة المغتصبين كمجرمين سفلة، كما يجدر بمجتمع سليم وانساني معافى.
لا يوجد في فلسطين الحديثة الساعية إلى تحرّرها من نير الاحتلال والقمع، مكانة لمثل تلك القوانين البالية الوحشية، خاصة بعد أن استوعب المجتمع الفلسطيني وذوّت جملة من التغييرات الاجتماعية المنصفة مع النساء، اللواتي أثبتن أنهنّ جديرات بالمساواة وقادرات على أن يعطين للحياة مثلما يعطي الرجال وربما أكثر؛ واذا ما تابعنا بعض تلك التطوّرات، وما أحدثته في عدة ميادين حياتية سنجد مثلًا أن تحسنًا ملموسًا طرأ على أوضاع المرأة الفلسطينية في مجالس الهيئات المحلية خلال الدورات الانتخابية الثلاث الاخيرة، حيث ارتفعت نسبة مشاركتهن من 18% إلى 20% . ومع أنّ السبب الرئيسي لذلك التحسّن يعود إلى تبنّي قاعدة "الكوتا" النسائية في الانتخابات المحلية، إلا أن المرأة نالت بعضًا ممّا تستحق، وعملت من مكانها الجديد أسوة مع الرجل في خدمة مجتمعها بلديًا.
وحسبما أُعلن مؤخرًا فإنّ عدد النساء الموجودات في الهيئات القروية والبلدية المنتخبة وصل إلى 820 امرأة، حيث تحتل محافظة رام الله والبيرة المرتبة الأولى فلسطينيًا بعدد 136 عضوا، فيما تأتي محافظة جنين ثانيًا فلسطينيا بعدد 128 عضوا؛ أما محافظة نابلس فتأتي ثالثًا بعدد 110 عضوات. (وفقًا لمنشورات وكالة "معًا" الفلسطينية).
ومن اللافت أن نقرأ عن ترؤس أربع نساء لمجالس بلداتهنّ المحلية، وأخريات تعملن في مواقع النيابة ولجان الإدارة الموثّرة محليًا. ( قبل سنوات ترأست جانيت مخائيل مجلس بلدي رام الله، بينما ترأست فيرا بابون مجلس بلدي بيت – لحم).
من الصعب عمليًا وصف تلك التغييرات، على أهميتها، وكأنها "ثورات" نجحت بنقل المجتمع الفلسطيني من موقعه ونظرته المتخلفة، على الأغلب، تجاه نسائه، إلى حالة من القبول والإقرار بوجوب اعتبار المرأة إنسانة كاملة ومتساوية مع الرجال.
ورغم إحراز بعض الانجازات مازالت حياة النساء في فلسطين صعبة، لا بل تزداد، بتفاوتات جغرافية، تراجعًا، نتيجة لعدة عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ ولكن، بالمقابل، منَعَ كفاح النساء وصمودهن، وما تقوم به مؤسسات السلطة على تواضعه، ونشاط بعض مؤسسات المجتمع المدني، إنزال الضربة القاضية بالوجود النسائي في الحياة العامة الفلسطينية، وأفشل، كل ذلك، إمكانية "محوهن" اجتماعيًا، كما يجري في مجتمعات شقيقة متشظية ومتخلفة.
فليس من باب الصدفة، كما قلنا، أن نقرأ عن فلسطين الرسمية والمؤسساتية وهي تحتفل في هذا الأسبوع الآذاري مع نسائها، وتعترف لهن بأدوارهن في النضال الوطني والتنمية الاقتصادية والتربية المجتمعية والعمل المنتج؛ فمن غزة، حيث سارت مظاهرة نسائية ضخمة دعت اليها اللجان النسائية، وحتى جنين مرورا في معظم المدن والمواقع، سمعنا وشاهدنا الجموع وهي تحاول تدعيم أحزمة الأمان حول المرأة والحفاظ عليها ككيان، بدونه ستبقى فلسطين مشوّهة وناقصة.
في هذا الخضمّ من الاخبار المفرحة جذبني ما قرأته على لسان، د. احمد براك، النائب العام الفلسطيني، الذي عدّد، بالتزامن مع اسبوع المرأة وفي الثامن من آذار، جملة من الانجازات على صعيد حقوق المرأة الفلسطينية.
فالنيابة العامة الفلسطينية التزمت بقاعدة التساوي بين الجنسين ودأبت على إتاحة فرص التعيين المتساوية واعتلاء المناصب داخل المؤسسة، وفي سبيل ذلك اعتمدت منهجًا مصوّبًا لغبن الماضي. وأوضح د. براك، أن اجمالي كادر أعضاء النيابة العامة من الإناث وصل الى (33) عضوا منهنّ (5) رئيسات نيابة عامة و(27) وكيلة نيابة ومعاونة نيابة، فيما وصل عدد الكادر الإداري الى (84) موظفة ما بين مديرات دوائر ورئيسات اقسام.
ما يحدث في سلك النيابة هو شأن مهم للغاية، فهذه المؤسسة هي المسؤولة المباشرة عن ملاحقة الجناة والاقتصاص منهم، وهي درع المجتمع الأمامي في محاربة الجريمة والتصدّي لمنابت خمائرها ودفيئات نموّها.
من هذا المنطلق والمفهوم شدّد النائب العام على أهمية "تطوير مفهوم الحماية ومحاسبة الجناة، من خلال إنشاء نيابة متخصصة بجنايات الأسرة وبالعنف العائلي وضد النساء والاطفال". وأكد على ضرورة "الشراكة الفاعلة والحقيقية، والعلاقة التكاملية مع مقدّمي الخدمات الاجتماعية والصحية والأمنية".
لن ينكر أحد وجود المحاولات الجدية لتغيير "النظرة السائدة" في مجتمعنا تجاه المرأة، وسيبقى نضال النساء انفسهن في طليعة تلك المحاولات وأهمّها، ولكن كما في كل الشرق مازالت دروب النساء عسيرة ولياليهن طوال، فاليوم وأنا اتهيّب لكتابة هذه المقالة قدّمت لي صديقة دعوة لحضور زفافها. فتحت الدعوة بفرح يليق بالأبيض، ووجدت نصّها يشبه نصوص الاعراس في جليلنا، بفارق بسيط وهو انني لم اجد اسم العروس، فقد "اسقطوه من جواز الفرح" واستبدلوه بحرف x.
نظرت اليها. لم تنتظر عتبي/غضبي.
قالت وبسمة حزينة وقفت على خدّها: هكذا يريد أهلي وهكذا تكون "العزائم" في مطارحنا. تمنّيت ساعتها لو تضيف حكومة فلسطين إلى قراراتها الاخيرة قرارًا يمنع إسقاط اسم فلسطين/ العروس من دعوة عرسها، فمع اسقاطه تبدأ دروب المهانة ويقف الوطن على ساق واحدة ويرقد الفرح يتيمًا.
جواد بولس
كاتب فلسطيني