أنا ناقل للعلم ولست من أهل العلم والفتوى والاجتهاد؛ وأنا لا أتواضع بل أصف نفسي كما هي إذا قلت بأنني أقل من (طويلب علم) صغير، وأرضى بأن أكون (متعلما على طريق النجاة) كما في القول المنسوب –بغض النظر عن صحة النسبة-إلى علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وهذا خير لي من البقاء في دائرة الجهل، أو ما هو أشد وأخطر على العقيدة وأصل الدين، أي انتحال صفة العالم والفقيه والمجتهد دون امتلاك مفاتيح هذه العلوم والإحاطة ولو بشيء يسير من أصولها؛ مثلما هو ديدن بعض الناس، نسأل الله العافية والهدى.
وهناك حديث رواه ابن ماجة والطبراني عن رسول الله–صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال(لا تجتمع أمتي على ضلالة) وقد رواه الترمذي وغيره بألفاظ أخرى؛ و قيل أنه ضعيف، ولكن بكثرة طرقه صحيح، وقد ذهب بعض المعاصرين كالألباني إلى القول بصحته، والله تعالى أعلم.
وقد تعمدت المرور على ما قيل في الحديث، مؤمنا أو مرجحا صحته، ولو لكثرة طرقه، لأن هذا محور مقالتي، فقد يأتي من يريد-من حيث يدري أو لا يدري- أن يشكك الناس في أحكام دينهم بالتذرع بأن الأمة من الممكن أن تجتمع على ضلالة وأن الحديث فيه ضعف، فمنطلق وأساس الفكرة هي النفي القطعي لاجتماع خير أمة أخرجت للناس على ضلالة؛ أي على كفر أو فسوق أو خطأ في الاجتهاد، وهذا ما دفعني للكتابة عن هذا الأمر وهو جهد المقلّ.
في السنين الأخيرة كثر اللغط وإثارة بعض القضايا التي تمس أحكام الدين من قبل بعض الأشخاص، ممن نترك نواياهم وخباياهم إلى الخالق-جل وعلا- وقد ساهمت التقنيات الحديثة خاصة الإنترنت في توسعة رقعة الجدل الذي أحدثوه، واللغط الذي أثاروه، في أكثر من منطقة وقطر إسلامي وفي أوساط العامة والخاصة.
لا أدري لماذا يرى بعض الناس أن الإبداع محله الدين وهو للاتباع لا الابتداع، مع أن مجالات الإبداع واسعة وكثيرة ومتعددة ومتنوعة، فلماذا لا يتجهون إلى محاولة الإبداع في الطب أو الفيزياء أو الرياضيات أو الأدب، ويتركوا محاولات العبث المتلبس بادعاءات التصحيح أو البحث عن الصواب أو الحرص على المصلحة، بدين الله الذي جعله الله خاتمة الرسالات وأصحها وأحكمها بنيانا؟
ولو أن من يثيرون هذه المسائل كانوا من أهل العلم النافع حقا لانشغلوا بتعليم الناس أحكام دينهم الأساسية، فمثلا أيهما أولى أن يتعلم الناس أحكام الصلاة وواجباتها وأركانها ويحرصون على أدائها أم أن تشغلهم يا مدعي العلم بجواز أن تؤمهم امرأة في صلاة الجماعة مثلا؟
ونحن على أبواب شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن؛ هل من الحكمة أو الحرص على الدين أن تقول بأن الأمة كانت تجتمع على ما هو خطأ في موعد الإمساك(أو الإفطار) بدعوى التشكيك السخيف بالتقويم المعمول به والذي تواتر العمل بمقتضاه وجرى ضبطه بالمطبوعات والأجهزة الإلكترونية مع الزمن، وكأنك تقول بأن الناس منذ 15 قرنا كان صيامهم خطأ وأنت فقط على صواب؟ألا تقول ضمنا بهذا أن الأمة كانت تجتمع على ضلالة في أمر يتعلق بأحد أركان الإسلام؟ما الذي تفيد به الأمة بإحداث هذا اللغط والجدل وإضاعة الوقت وصرف النظر عما يهم الأمة فعلا؟أليست هذه فتنة للناس؟ والفتنة أشد من القتل.
وهذا الدفق المتنامي من افتعال الجدل في أحكام الدين لهو أمر جد خطير، ويضر بالأمة ويحدث الفرقة والشقاق، والأنكى يحدث نوعا من شك الناس بإيمانهم وإسلامهم وخلخلة يقينهم، وكأنه لا يكفي الأمة تكالب أعدائها، وانتهاك مقدساتها، ومظاهر التخلف المعيشي عندها، ليأتي من يتصدر للتشكيك-باسم الدين- بأحكام الدين وشرع الله تحت يافطات وشعارات لا تقود في النهاية إلى حسن إسلام أو تعزيز إيمان، ووجب التصدي لهذه الظاهرة بكل حكمة وحزم، حيث أن الأمر قد وصل إلى ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
ولا يتسع المجال للحديث عن كل المسائل المثارة التي محورها الإشارة إلى أن الأمة اجتمعت على ضلالة بل ضلالات، وفق منطق العبث المنتشر بفعل التقنيات الحديثة كالإنترنت والفضائيات وأيضا لن أنشغل بالرد عليها أو على بعضها، بل أريد محاربة فكرة إشغال أو انشغال الأمة أو جزء منها بها؛ وقد تجرأ بعضهم على مسائل الحلال والحرام، ويريدون جعل أحكام الدين لهوا ولعبا، والعياذ بالله، فمنهم من شكك أو نفى تحريم شرب الخمر قطعا، أي يا أمة محمد لقد كنت على خطأ حين حرمت نفسك من التلذذ بهذا المشروب بدعوى الحرمة الشرعية، ولا تعرفين أن الله لم يحرمه عليك وفهمت النصوص خطأ، وجئت أنا لأصحح لك خطأك الكبير! ومنهم من يقول بجواز التدخين في نهار رمضان للصائم دون أن يفسد صومه، ومنهم من يرى أن الحج يجوز في كل شهور السنة، ومنهم من يرى جواز كشف المرأة لمفاتنها أمام غير زوجها أو محارمها بدعوى أن ثمة لبس وعدم وضوح في أحكام الستر وآياته وأحاديثه، أو لأن ذريعة الستر قد زالت بزوال علتها...إلخ من المسائل التي حين توضع في حضرة من رقّ دينه أو ضعف يقينه أو تغلب عليه البساطة، أو-وهذا الوتر الذي يلعبون عليه-طغى عليه حب الشهوات ويريد مخرجا عبر ما يعتبره فتوى وحكما أو قضية خلافية محضة، فإنها تجعل الناس في حالة اغتراب عن أحكام دينهم، أو شك فيها، وجرأة على تجاوزها، أو –كما نلحظ- غضبا بالقول بأنهم لم يعودوا يؤمنون بشيء ولا يصدقون ما يقال ولا ما يكتب وينشر، ولا يدرون أين ومن هو على الصواب...ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكل ما سبق عند أناس ربما بعضهم درس شيئا من العلم الشرعي، ويرفعون في وجهنا سيف الاختصاص لهدم أصل ومادة وأركان الاختصاص، فكيف بمن لا يتقن قراءة سورة الفاتحة، أو لا يحفظ بضع سور من قصار سور القرآن الكريم، ولغته العربية، وهي عامل أساس في الأمر، ضعيفة ركيكة ويلحن في كل جملة يتفوه بها، ثم يخرج علينا بوقاحة وصلافة كي يقول لنا أن فحول العلماء وكبار الفقهاء لا يمكن أن يكونوا تلامذة صغارا في مدرسته العظيمة، وهو يهرف بما لا يعرف، ويحرّم ويحلل ويفتي فتاوى ليس لها بأهل، ولا يملك من أدوات الفتوى والتصدر لها شيئا مذكورا من العلم أو اللغة؟!
الحديث ذو شجون ولست الآن في معرض الخوض في دوافع القوم، ولكن واجبي أن أقول لهم:اتقوا الله ولا تجعلوا أحكام الدين مادة للعبث والتشكيك، واتهام الأمة بأنها تجتمع أو اجتمعت يوما على ضلالة، وأيضا لمن هو حائر لسبب أو لآخر أمام هذا الهجوم العنيف المتغطي بخبث بدعاوى التصحيح والتصويب أقول:لا تضع وقتك في هذه الأغاليط وخير لك اليقين بأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وتعلم أحكام دينك وأركانه من غير المشككين المثيرين للشك في نفسك فهذا أسلم لك وأحفظ من متابعتهم ولو من باب الرد عليهم، وتذكر أن ما تراه هو زبد سيذهب جفاء بأسرع مما نحسب...والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بقلم/ سري سمّور